اختتمت في منتصف يوليو الجاري فعاليات مسابقة ملكة جمال الكون وهي تندرج ضمن المسابقات الأربع الكبرى عالميًّا؛ لتحيي الجدل حول ظاهرة مسابقات الجمال التي انتشرت عالميًّا منذ عقود وعرفت طريقها إلى العالم الإسلامي مؤخرًا.
تاريخ مسابقات الجمال
فكرة اختيار فتاة شابة وتتويجها على عرش الجمال عادة أوروبية قديمة؛ فالمرأة الجميلة ترمز للقارة الأوروبية ذاتها كما ورد في الأساطير القديمة؛ ومن ثم فإن الاحتفالات باختيار الفتيات كانت تأخذ طابعًا قوميًّا ودينيًّا واضحًا.
أما مسابقات الجمال المتعارف عليها حاليًا فتعود إلى عام 1921 حين نظمت ولاية أتلانتا الأمريكية أول مسابقة من نوعها لاختيار ملكة جمال للولاية، وفي العام التالي صار اسمها مسابقة ملكة جمال الولايات المتحدة.
وقد أخذت الفكرة طريقها نحو العالمية على يد البريطاني إريك مورلي الذي نظم مسابقة (miss world) للمرة الأولى عام 1951، وفي العام التالي مباشرة تم تنظيم مسابقة ملكة جمال الكون (miss universe) حتى بلغ عدد المسابقات العالمية أربع مسابقات.
الاحتجاجات الإسلامية
في الجهة المقابلة عرفت هذه المسابقات سبيلها إلى العالم العربي أواخر الثمانينيات التي شهدت بدايات المد العولمي؛ ففي عام 1987 نظمت إحدى الشركات أول مسابقة من نوعها في مصر وذلك على نطاق ضيق وشبه سري واستمر الحال على هذا النحو إلى أن تمت النقلة النوعية لهذه المسابقة عام 1998 بحصولها على توكيل منظمة ملكة جمال الكون وبموجب ذلك أضحت الفتاة الفائزة تشارك في المسابقة العالمية التي تعدها المنظمة.
رافق هذا تبدل مماثل على صعيد وسائل المسابقة التي تخلت عن السرية وصار هناك تركيز إعلامي مفرط في تغطية فعاليتها، وهو ما أسهم في زيادة عدد المتقدمات من بضع عشرات مع انطلاقها إلى أن بلغ 850 عام 2005، وقفز العدد فجأة إلى ما يربو عن ألفي فتاة في الدورة الأخيرة 2007، الأمر الذي فاقم من حدة الانتقادات الموجهة إليها حتى وصل بعضها إلى البرلمان المصري (مجلس الشعب) عدة مرات.
وبعد أن كان الحديث يجري همسًا عن المخالفات الأخلاقية للمسابقة أصبح جهرًا في العام التالي مع تقدم عدد من المتسابقات ببلاغ للنائب العام يتحدثن فيه عن مخالفات شرعية وفضائح أخلاقية شابت فعالياتها.
ورغم ما يثار حول هذه المسابقات فهناك توجه نحو تعميم هذه المسابقات ونشرها؛ فبعد أن كانت مصر ولبنان وحدهما من ينظمان هذه المسابقة عربيًّا شرعت المغرب منذ عام 1999 في تنظيم مسابقة مماثلة.
كما جرت محاولة أردنية عام 2002 لإجراء أول مسابقة أردنية غير أن الاعتراضات الشعبية وضعف الإقبال على المسابقة (شاركت 6 متسابقات فقط) جعلا من تكرار التجربة أمرًا مستحيلاً.
وعلى امتداد العالم الإسلامي لم يكن إقرار هذه المسابقات هينًا، ففي عام 2002 شهدت نيجيريا مواجهات دامية أسفرت عن سقوط مائتي شخص احتجاجًا على إقامة مسابقة ملكة جمال العالم في دولة ذات أغلبية مسلمة وهو الأمر الذي اضطر اللجنة المنظمة إلى نقل المسابقة إلى القارة الأوروبية في مسعى لتهدئة الغضب الإسلامي.
الإمبريالية الأمريكية والجمال
تحملنا النماذج السابقة على الاستنتاج أن هناك جهات ما تضغط باتجاه الترويج لهذه المسابقات في العالم الإسلامي بأي ثمن؛ فهناك حثًّا أمريكيًّا على تنظيم مثل هذه المسابقات في البلدان الواقعة تحت الاحتلال الأمريكي؛ ففي عام 2003 شاركت امرأة أفغانية مقيمة في الولايات المتحدة في مسابقة ملكة جمال الأرض مثيرة بذلك انتقادات شعبية حادة، وكانت المتسابقة قد بررت مشاركتها بأنها تريد القضاء على صورة الأفغانيات باعتبارهن نساء معزولات؛ فهن موهوبات وذكيات وجميلات وبإمكانهن أن يحدثن اختلافًا في هذا العالم.
وللمرء أن يتساءل عن طبيعة هذا الاختلاف وكيف يتحقق؟ وما الاختلاف الذي أحدثته هذه المشاركة على الساحة الأفغانية في السنوات التالية؟
أما في العراق فقد شجعت سلطات الاحتلال تنظيم مسابقة جرى التكتم بشأنها في العراق عام 2006، وما إن أشيع النبأ حتى تلقت الفائزة تهديدات بالقتل فاضطرت إلى التنازل عن اللقب والفرار خارج العراق؛ لذا جرى الاتصال بالوصيفتين الأولى والثانية ولكنهن خشين ذات المصير، وأخيرًا تم منح اللقب إلى المرشحة الرابعة التي أعلن عن أنها ستشارك في مسابقة ملكة جمال الكون التي احتفت بالمتسابقة لشجاعتها.
ويبدو أن هذه المسابقة وجدت في العراق لتبقى؛ فرغم ما أصابها من فشل فقد أعيد تنظيمها في العام التالي تحت دعاوى نشر ثقافة السلام في مواجهة ثقافة الحرب والتدمير، وهنا تثور علامات استفهام عديدة حول العلاقة بين الفتيات الجميلات وبين السلام، وما هي طبيعة ذلك السلام الذي ستحققه الفتيات الجميلات تحت المظلة الأمريكية.
فلسفة إعلاء الجسد
يحمل الرفض الإسلامي في طياته ما هو أكثر من النظر لهذه المسابقات على اعتبار أنها تشيع العري والابتذال؛ فلا يمكن أن نعزو الفتاوى القطعية في تحريم هذه المسابقات لبعض كبار العلماء أمثال الشيخ جاد الحق على جاد الحق - رحمه الله - أو الشيخ نصر فريد واصل أو الشيخ علي جمعة إلى الجانب الفقهي فحسب، رغم جلالته وأهميته، ولكن هذه الفتاوى تعكس فهمًا ووعيًَا بأن هذه المسابقات تلخص رؤية مادية للإنسان وجوهرها اعتبار الجسد معيارًا للتفاضل بين البشر، وهو ما يتنافى مع التصور الإسلامي الذي يرجع التفاضل إلى التقوى، أي ما اكتسبه الإنسان بيده وعمله، وهنا يمكن أن نتوقف أمام بعض العناصر التي تستجلي طبيعة هذه المسابقات.
فمن جهة تتمركز هذه المسابقات بشكل أساسي حول الجسد الذي يعني المادة التي هي مقابل الروح ومنهما سويًا يتشكل الجوهر الإنساني – وفقًا للتصور الإسلامي- وتمركز هذه المسابقات حول الجسد واعتباره معيارًا أوحد في التقييم الإنساني يعني أن الإنسان يتشكل أساسًا من المادة وأنه لا أثر للروح في التكوين الإنساني، وحتى لو افترضنا جدلاً وجود بصيص من الروح فإنها تكون في حالة تابعة للجسد، وليس العكس.
من جهة ثانية يرمز الجسد إلى المتعة ومن ثم يصبح التركيز على الجسد في جوهره تركيز على المتع الحسية ويصبح إشباعها هو غاية الوجود الإنساني ومنتهاه.
ومن جهة ثالثة وأخيرة فإن هناك علاقة لا انفصام لها بين هذه المسابقات وبين الشركات الرأسمالية الكبرى التي تتخذ من أجساد الفتيات المشاركات أداة أساسية للترويج لمنتجاتها الاستهلاكية في تجسيد عملي لمبدأ تعظيم الربح الذي هو أحد المبادئ الكبرى التي تستند إليها الليبرالية الغربية.
وبتدقيق النظر نجد أن (المادة والمتعة والربحية) يختزلون ثلاثتهم التصور الغربي في نظرته للوجود وللطبيعة الإنسانية؛ فكأن هذه المسابقات تستبطن رؤية كامنة وفلسفة وبالتالي لا يمكن النظر إليها بوصفها مسابقات ترفيهية غايتها الاحتفاء بالجمال الذي اختزل – وابتذل أيضًا - في وجه جميل وجسد ممشوق دون أي اعتبار لأبعاد روحية سامية.
إنه الجمال الذي عرفته أسواق النخاسة والرقيق الأبيض فيما مضى وأحيته الحضارة الغربية مجددًا.
اضغط على الكلمات المفتاحية التالية، للإطلاع على المقالات الأخرى المتعلقة: