يسمح بالنقل، بشرط ذكر موقع "بوابتي" مصدر المقال، ويفضّل أن يكون ذلك في شكل رابط
قد يكون العنوان الأنسب: هل ضاعت فرصة التأسيس لديمقراطية عربية ممكنة؟ لأن الحديث عن الديمقراطية العربية لا يخلو من غرابة في منطقة حكمها الاستبداد والقمع منذ عقود طويلة خاصة أنها معرّفة بالألف واللام مما قد يوهم بأنها كانت يوما ما واقعا معلوما. لكنّ هذا التوجّس لا ينفي أن السياق الذي عرفته المنطقة منذ عقد من الزمان كان سياقَ إمكان التأسيس الديمقراطي بناء على الشعارات التي رفعتها الجماهير في الميادين والساحات مطالبة بالحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية التي هي جوهر البناء الديمقراطي.
هذا الطرح تتقاذفه أمواج عاتية توشك أن تمنع الولوج إلى جوهره تفكيكا وبناء لأنّ المسألة الديمقراطية التي تلوكها الألسن في المنابر والمحاضرات وترفعها الأحزاب والمنظمات وتنادي بها التيارات الفكرية على مختلف مشاربها تبقى عصيّة عن التفكيك في سياقها العربي. لكنّ كل ذلك لن يحول دون كشف ما اعترى المقولة من أسباب الزيف والتضليل وما حفّ بها من شروط التوظيف والتوجيه لأن مطلبها لا يزال قائما ما قام الاستبداد وبقيَ.
هذا التضليل والتزييف المتأتي أساسا من ربطها الحصري بالديمقراطية الغربية هو الذي مكّن لأبواق الطغاة من الفريقين نشر أكذوبتين: تتمثل الأولى في أنّ الديمقراطية مستحيلة التطبيق في بلاد العرب وأن المستبدّ العادل هو طوق النجاة وهذا هو شعار القوميين واللبراليين والعلمانيين والشيوعيين. أما الثانية فتتجلى في تكفير الديمقراطية لأنها معادية للشريعة والدين وهذا لسان حال عسس الطغاة من السلفيين والمداخلة والجامية وكل الأنساق الدينية التي صنعتها سلطة الحاكم بأمره.
النشأة وتجدد السياقات
الديمقراطية مقولة قديمة قدم الفكر اليوناني جوهرها الحدّ من نزوع السلطة السياسية إلى الحكم الفردي المطلق وتمكين الشعب من المشاركة فيها. تطوّرت المقولة بتطور السياقات التاريخية وتتابع الأنساق الحضارية حتى بلغت أوج نضجها في منظومات الحكم الغربية المواجهة للأنظمة الشمولية الفاشية أو الملكيات المطلقة المتسلحة بسلطة الكنيسة. إنها ليست نموذجا للحكم الغربي بقدر ما هي أنضج وأسلم ما بلغه الاجتماع البشري من نظريات الحكم السياسي المدني رغم كل المآخذ عليها.
تقوم الديمقراطية على فكرة أساسية وهي فكرة الحرية الفردية التي تؤسس لمبدأ المشاركة في الحكم في نطاق ضوابط القوانين والدساتير التي تختص بها كل مجموعة بشرية. وهي من هذه الزاوية النظرية تشترك مع كل الرسالات والنظريات والطروحات التي تسعى إلى تحقيق القدر الأعلى من العدالة الاجتماعية والتوزيع العادل للثروات وضمان حقوق الأفراد والجماعات.
عربيا لم تعرف البلاد أية تجربة ديمقراطية حقيقية خلال العقود المديدة لما يسمّى زورا "الدولة الوطنية" التي كانت في الحقيقة امتدادا مقنّعا للمنظومات الاستعمارية، حيث حققت في فترة وجيزة ما عجزت عنه جيوش الغزاة. لكن في المقابل كانت أبواق الاستبداد وأجهزته تروّج زورا وسطوا للفكرة الديمقراطية حتى وصل بها الأمر إلى تنظيم انتخابات صورية وكانت أسماء الأحزاب الحاكمة تحمل في مجملها صفة "الديمقراطي".
لكن أهم اللحظات الديمقراطية الحقيقية التي عرفتها المنطقة إنما تأتت من المسارات التي أعقبت الثورات وخاصة في تونس ومصر التي لم تشهد مواجهات مسلّحة. نُظمت انتخابات عديدة شهد لها العالم بالنزاهة والمصداقية وأفرزت نخبا حاكمة ودساتير متقدمة كما عرف الإعلام والرأي حرية وانفراجا استثنائيا لم تعهده المنطقة العربية طوال تاريخها.
الانقلاب على الديمقراطية الممكنة
حين صارت الديمقراطية ممكنة في مصر وتونس خاصة صدر الأمر الدولي بتصفية المُنجز الثوري الذي أصبح يمثّل خطرا على الوكيل وعلى الكفيل معا. تكفلّت غرف الانقلابات في الخليج بتصفية المسارات الثورية خاصة بعد أن بدأت مصر وتونس تؤسسان لتجربة سياسية جديدة يطبعها التنوّع والاختلاف رغم سيطرة الأحزاب الإسلامية على المشهد وهو أمر طبيعي لمن يعرف طبيعة المشهد السياسي في البلدين خلال أطوار الاستبداد.
تحركت كل الجيوش الإعلامية والحزبية والنقابية والمدنية وحتى الفنية لشيطنة الثورات وبلغ المشهد أوجه بعد نجاح الانقلاب في مصر وهو الحدث الذي سيغيّر كامل المسارات العربية المتبقية من سوريا إلى ليبيا إلى اليمن وتونس. لم يكن الإسلاميون في هذا المشهد سوى كبش الفداء الذي سيُذبح على بساط الحرية ولم يكن الإخوان سوى الضحية المناسبة التي ستعلّق عليها كل أسباب الفشل.
نشطت الاغتيالات السياسية في تونس وانطلقت جماعات العنف والقتل تفتك بمشهد الثورة الناصع بعد أن توفرت لها كل الأغطية والأحزمة والتمويلات الكافية من الداخل والخارج باسم الجهاد وباسم الدولة الإسلامية. كان من الضروري وسم الثورات بطابع العنف حتى وإن كانت سلمية محضة لأنه الطريق الوحيد لربطها بالتطرف ثم بالإرهاب لتبرير سحقها والقضاء عليها بمباركة دولية.
نشطت كذلك كل أصناف التخريب الاقتصادي والقصف الإعلامي لمنع المواطن من تبيّن حجم المنجز الثوري وتقدير قيمته وإدراك أن ما أنجزه فعل تاريخي لا يُقدّر بثمن. كان دور الإعلام والنخب السياسية والفكرية زرع الفرقة وتمزيق المشترك الوطني ومنع ركّاب السفينة من الاتفاق على وجهة واحدة قبل أن تغرق المركب بالجميع.
قليلة هي القوى التي أدركت أنّ المستهدف لم يكن الإسلاميين ولا غيرهم من مكونات المشهد الثوري بل كان المستهدف الأساسي هو المسار الثوري بما هو الطريق المؤدي إلى البناء الديمقراطي لا بمفهومه الغربي بقدر ما هو بناء مشترك يقطع مع ثقافة الزعيم الأوحد والقائد المُلهم. كان الخوف كل الخوف من أن تتمكّن الثورات من تثبيت أسس التعايش والقبول بالآخر والقطع مع ثقافة الاستبداد بالرأي والقرار والتأسيس لثقافة سياسية ومجتمعية جديدة تقوّض عمل عقود من تجريف الوعي وتحريف الرؤية وتجهيل الجماهير وتكريس الطائفية والعصبية والولاءات الأجنبية.
أعداء الديمقراطية العربية
الديمقراطية ختاما ودفعا للجدل والفلسفة والتأويل هي الحكم الرشيد القائم على العدل والحقوق أولا وآخرا مهما كان السياق الاجتماعي والتاريخي الذي تتنزل فيه. لكنّ اللافت في المشهد العربي المعاصر أنّ نصيب العداء الأكبر للفكرة الديمقراطية تتقاسمه ثلاثة مكونات وظيفية ويسانده مكوّن واحد من أجل الإجهاض عليه من الداخل أي أنها فكرة يحاربها الجميع في الداخل والخارج.
نبدأ بآخر المكونات التي تدّعي تمثيل الديمقراطية ومساندتها وترفع شعاراتها وهي التي تتمثل في مختلف الحكومات العربية والأحزاب المتصلة بها وخاصة اللبرالية منها. قامت هذه المكونات على رفع شعار الديمقراطية بكل ما يتضمنه من مقولة المؤسسات والأحزاب والبرلمانات وحقوق الإنسان وحرية الصحافة والتعبير باعتبارها مكاسب لا رجعة عنها كما رأينا ذلك في مصر وتونس والجزائر والمغرب ولبنان مثلا. لكنّ الواقع والحقيقة كانا غير ذلك، هذا إن لم نقل إنّ الهدف من الإيهام بالديمقراطية لم يكن غير سبيل لإسناد المقولات التي تقول باستحالة تطبيقها في البلاد العربية.
أما الأثافي الثلاثة فأحدها إسلامي متطرف يرى في الديمقراطية بدعة غربية فيكفّرها لأنها حسب رأيه مناقضة للشريعة لكنه في الحقيقة ينطق بلسان الحاكم الذي يخشى من جوهر الديمقراطية التي تفرض التداول على السلطة وتقرّ حرية التعبير. أما الثانية فتخص التيارات القومية التي تأسست على فكرة الحزب الواحد والزعيم الأوحد صاحب النظرية الخالدة والرؤية الثاقبة، لذا كانوا دائما في مقدمة داعمي الانقلابات يباركون مجازر العسكر في حق كل انتقال ديمقراطي. لم يخرج اليساريون والشيوعيون عن هذا التوجه وهم الذين استندوا إلى نظرية دكتاتورية البروليتاريا مبررين محاربتهم للفكرة الديمقراطية بأنها نبتة لبرالية وأكذوبة برجوازية لا تحقق العدالة الاجتماعية لكنهم ارتكبوا في حق المجتمعات أبشع المجازر والمحارق ولم يخلفوا غير الخراب والدمار في كل بلاد مرّوا بها.
ليس مجتمع الديمقراطية المنشود بذخا سياسيا بل هو المخرج الوحيد من حالات الاحتقان والخراب العربية. وهو الأمر الذي يفتح المنطقة على ثلاثة احتمالات: فإما القبول بالتغيير والبدء في ترميم البناء السياسي والاجتماعي من الداخل لاستباق كل انفجار ثوري جديد وهو أمر مستبعد الحدوث لمن يعرف طبيعة السلطة العربية.. الاحتمال الثاني هو انتظار الموجة الثورية القادمة بما هي حتمية تاريخية لأن أسباب الانفجار كلها لا تزال قائمة بل إنها ازدادت عنفا وثباتا بعد قمع الموجة الأولى. آخر الاحتمالات وأخطرها هو سقوط المنطقة من جديد تحت الوصاية الخارجية بشكل من الأشكال وهو ما يُلغي كل إمكانات التغيير الداخلية ويضع كامل المنطقة تحت رحمة الخارج لا سمح الله.
اضغط على الكلمات المفتاحية التالية، للإطلاع على المقالات الأخرى المتعلقة: