البدايةالدليل الاقتصادي للشركات  |  دليل مواقع الويبالاتصال بنا
 
 
 
المقالات الاكثر قراءة
 
تصفح باقي الإدراجات
أحدث المقالات

قراءة مختلفة في العملية الإرهابية الأخيرة بتونس

كاتب المقال عادل بن عبد الله - تونس   
 المشاهدات: 2606



لا شك في أن المشتغل "الجاد" بالشأن التونسي سيجد نفسه أمام معطيات غير مكتملة في ما يخص العملية الإرهابية الأخيرة، وهو نقص جوهري يجعل من بناء الاستنتاجات أو المواقف النهائية أمرا متعذر، اللهم إلا على من يستثمرون في الدم ويحاولون توظيف الإرهاب لخدمة أجندات سياسية أو حزبية معينة.. فحتى هذه اللحظة، لم يصدر عن وزارة الداخلية التونسية بيان مفصّل يمكن الارتكاز عليه لفهم العملية الإرهابية، كما لم تتبنّ أية مجموعة إرهابية عملية التفجير التي أودت بحياة من "يُشتبه" في أنها منفذة العملية.

في الدول الغربية، يُفرّق المتدخلون في الإعلام (بل تفرق السلطة ذاتها) بين "المشتبه فيه" و"المتهم" و"المجرم"، فهي ثلاث توصيفات قانونية يجب الفصل بينها؛ احتراما لمسارات التحقيق وعمل القضاء من جهة أولى، واحتراما للحقيقة ولعقل المتلقي (أي المواطن) من جهة ثانية. ولكننا في تونس، وفي أغلب الدول المتخلفة، نلاحظ تسرعا "محموما" للربط بين تلك التوصيفات القانونية والانطلاق من حيث ينبغي أن ينتهيَ التحقيق الموضوعي والمحاكمة العادلة، أي الإدانة والتجريم.

كان أول خبر تناقلته وسائل الإعلام (وبنى عليه "الإعلاميون" و"الخبراء" و"المحللون" خطاباتهم)؛ هو أن العملية قد وقعت بـ"حزام ناسف"، ثم تبين لاحقا، بناء على أي قراءة عفوية لجسد "منفذة" العملية، أنها كانت تحمل حقيبة متفجرات بدائية الصنع ولم تكن تحمل حزاما ناسفا. وبالطبع فإن تغير المعطيات لا يعني البتة عند "إعلاميينا" و"خبرائنا" تغيرا في آليات التحليل ولا تغيرا في "المتهم الرئيس" (أي حركة النهضة) ولا في النتائج (ضرورة إقصاء حركة أو على الأقل تحييدها وإبعادها عن السلطة). فالمرأة تظل "إرهابية" رغم وجود إمكانية أن تكون قد فُجّرت عن بُعد، والنهضة تظل متهمة رغم وجود إمكانية أن تكون هي المستهدف الأساسي من هذه العملية، بل رغم وجود إمكانية أن يكون المستهدف هو مسار الانتقال الديمقراطي برمّته.

من المعروف في مهنة الصحافة أنّ "الخبر مقدّس والتعليق حر"، ولكنّ المصيبة في الإعلام التونسي أن الخبر ذاته لم يعد مقدّسا. فصياغة الخبر ليست مجرد نقل "موضوعي" لحدث خارجي، بل هي في وجه من وجوهها "صناعة" للخبر ذاته. فإذا كان الغرب يعيش في زمن يسميه بعض الباحثين بـ"مرحلة ما بعد الحقيقة"، فإننا في تونس (وفي أغلب الدول العربية) ما زلنا نعيش "مرحلة ما قبل الحقيقة". وهو وصف يمكننا حمله على معنيين:

1- نحن نعيش "مرحلة ما قبل الحقيقة" من جهة معرفتنا بـ"تاريخنا" البعيد والقريب، وهو واقع تسعى أغلب النخب "اللائكية" إلى تأبيده بضرب عمل "هيئة الحقيقة والكرامة"، استباقا لتقريرها النهائي الذي سيظهر قبل نهاية العام. كما تسعى تلك النخب إلى بناء سرديات "موازية" لعمل الهيئة، وذلك بالدفاع عن ميراث دولة الاستبداد بلحظتيها الدستورية والتجمعية، وبتبييض رموز تلك المرحلة وجعلها خارج أية مقاربة "موضوعية" لظاهرة الإرهاب. فمن يستمع إلى "إعلاميينا" و"خبرائنا" يكاد يوقن أن الإرهاب ظاهرة مرتبطة بالثورة وبوجود حركة النهضة. ولذلك، لا أحد منهم يتحدث عن العمليات الإرهابية التي حصلت في عهد المخلوع (عملية الكنيس اليهودي بجربة، عملية سليمان، بعض العمليات التي وقعت في مراكز حدودية)، ولا أحد منهم يتحدث عن "تسفير" الإرهابيين إلى مناطق القتال في أفغانستان والبلقان، بل لا أحد منهم يطرح (ولو من جهة الافتراض) إمكانية وجود علاقة لشبكات التسفير القديمة بظاهر تسفير الإرهابيين إلى سوريا مثلا، أو "إمكانية" وجود اختراق أو توظيف للمجاميع الإرهابية من طرف جهات داخلية أو إقليمية؛ مشهورة بعدائها للثورة ولمسار الانتقال الديمقراطي ولوجود حركة النهضة في المشهد السياسي القانوني. فالإرهاب عند أغلب المتدخلين لتفسيره هو مجرد "موضوع متاح"، وليس هو "الموضوع المقصود"؛ لأن المقصود بالأصالة والقصد الأول هو ضرب حركة النهضة، وليس فهم ظاهرة الإرهاب أو بناء مقاربة شاملة للقضاء عليها. ولا شك في أن هذا المنطق يجعلنا أمام "التقاء موضوعي" بين "التكفيريين" من جهة أولى، والكافرين بالديمقراطية والساعين إلى العودة إلى مربع 13 كانون الثاني/ يناير 2011، بل إلى مربع 7 تشرين الثاني/ نوفمبر 1987، من جهة ثانية.

2- نحن نعيش "مرحلة ما قبل الحقيقة"؛ من جهة الاستراتيجيات أو الخطابات المهيمنة في المستوى الإعلامي. فالإعلامي التونسي وأغلب الخبراء والمحللين يجسدون الصورة النموذجية لما يمكن أن نسميه بـ"المثقف المضاد" أو "المثقف المقلوب". فإذا كان المثقف حسب بعض التعريفات هو المنحاز للحقيقة ولمن هم أسفل، فإن أغلب المتدخلين في الشأن الإعلامي يمثلون النقيض المفهومي والموضوعي لهذا التعريف. فخطاب الحقيقة الوحيد هو "خطاب السلطة" الذي يحمي المصالح المادية والرمزية للنواة الصلبة لمنظومة الحكم (أي تلك النواة الجهوية- الأيديولوجية- الزبونية المعروفة)، ولذلك فإن انحياز هؤلاء سيكون بالضرورة لـ"من هم أعلى" منذ بناء ما يُسمّى بالدولة الوطنية، وصياغة أساطيرها التأسيسية المتمحورة أساسا حول أسطورة توليدية أساسية هي: "النمط المجتمعي التونسي". ولذلك، فإن الغالب على مواقف الإعلاميين والخبراء والمحللين هو الانحياز ضد "من هم أسفل"، أي ضد المهمشين والمقموعين والمقهورين جهويا وأيديولوجيا ووجوديا، أي أولئك الذين فتحت لهم الثورة "حلما" لإعادة التفاوض حول "المشترك المواطني" وآليات توزيع السلطة والثروة في تونس. ولا شك في أنّ "الانحياز الأصلي" الذي ولّد مجموع الانحيازات (ضد الحقيقة ومن هم أسفل) هو الموقف من الثورة ذاتها. فأغلب المتدخلين في فهم الشأن العام وتفسيره، وبالتالي في تفسير ظاهرة الإرهاب، ما زالوا يرفضون الاعتراف بحدوث ثورة، ويُصرّون على مهاجمة كل مخرجاتها وممكناتها. وهم لا يجدون أفضل من مهاجمة حركة النهضة لتصعيد هذا الموقف وإخراجه بصورة "مقبولة" ومخاتلة. ولذلك، فإنهم يسعون إلى بناء خطاب"حقيقتهم" على محورين متلازمين: تبييض المنظومة القديمة ورموزها؛ وتبرئتها من أية مسؤولية في ظهور الإرهاب عبر خياراتها الاقتصادية والثقافية والتربوية والدينية والسياسية، وشيطنة مرحلة حكم الترويكا بنواتها النهضوية، والعمل على تشكيل رأي عام يختزل الإرهاب في تلك المرحلة، وكأنها هي البدء المطلق للتاريخ التونسي، أو كأن الإرهابيين هم نتاج تلك المرحلة، وليس صنيعة أو ضحية الخيارات السلطوية التي سبقتها منذ الاستقلال الصوري عن فرنسا.

رغم ثقتنا بالقضاء، ورغم ثقتنا في ما ستُسفر التحقيقات الأمنية في العملية الإرهابية الأخيرة من نتائج، من المؤكد أن التحالف الموضوعي بين "الإرهاب" وأغلب الخطابات المفسّرة له في المستوى الإعلامي سيتواصل. إننا أمام "تعامد" وظيفي لا يمكن أن تخطئه العين بين خطابين يتضادان ظاهريا ويلتقيان موضوعيا، أي إننا أمام اعتماد متبادل بين الإرهاب ومن يستثمر فيه سياسيا وأيديولوجيا. فالإرهاب يريد ضرب مسار الانتقال الديمقراطي الهش وفكرة التوافق بين الإسلاميين والعلمانيين على مشترك مواطني جامع، أي يسعى إلى بيان استحالة التعايش بين الإسلاميين والعلمانيين في إطار دولة واحدة وتشريع مدني واحد، وهو خيار استراتيجي لا يختلف في شيء عن خيار أغلب من ينتجون الخطابات المفسرة للإرهاب. فخطاباتهم تسعى إلى تحقيق النتيجة ذاتها، لكن بجملة سياسية "حداثية" توهم بعداء "التكفير"، وهي تحرص على تأبيد شروط إنتاجه، أو على الأقل تحرص على أن يظل عصيا عن التفسير والمواجهة، سواء أقصدت ذلك أم لم تقصد بخطاباتها الصدامية ومقترحاتها التشريعية، وبسعيها الدؤوب لاستثمار "الإرهاب" لضرب الانتقال الديمقراطي ومخرجاته على مختلف الأصعدة.


 اضغط على الكلمات المفتاحية التالية، للإطلاع على المقالات الأخرى المتعلقة:

تونس، تفجير شارع بورقيبة، العملية التفجيرية، الإرهاب،

 





تاريخ نشر المقال بموقع بوابتي 3-11-2018   المصدر: عربي 21

تقاسم المقال مع اصدقائك، أو ضعه على موقعك
لوضع رابط لهذا المقال على موقعك أو بمنتدى، قم بنسخ محتوى الحقل الذي بالأسفل، ثم ألصقه
رابط المقال

 
لإعلام أحدهم بهذا المقال، قم بإدخال بريده الإلكتروني و اسمك، ثم اضغط للإرسال
البريد الإلكتروني
اسمك

شارك برأيك
لوحة مفاتيح عربية بوابتي
     
*    الإسم
لن يقع إظهاره للعموم
     البريد الإلكتروني
  عنوان المداخلة
*

   المداخلة

*    حقول واجبة الإدخال
 
كم يبلغ مجموع العددين؟
العدد الثاني
العدد الأول
 * أدخل مجموع العددين
 
 
 
أكثر الكتّاب نشرا بموقع بوابتي
اضغط على اسم الكاتب للإطلاع على مقالاته
صباح الموسوي ، د. صلاح عودة الله ، مجدى داود، د. خالد الطراولي ، د. طارق عبد الحليم، محمد عمر غرس الله، أحمد الحباسي، خبَّاب بن مروان الحمد، أبو سمية، سامر أبو رمان ، فوزي مسعود ، محمود طرشوبي، كريم السليتي، رمضان حينوني، محمود فاروق سيد شعبان، أ.د أحمد محمّد الدَّغَشِي ، ضحى عبد الرحمن، عراق المطيري، الهادي المثلوثي، د- محمد رحال، أشرف إبراهيم حجاج، د - شاكر الحوكي ، الهيثم زعفان، فهمي شراب، د. أحمد محمد سليمان، صلاح الحريري، علي الكاش، د - الضاوي خوالدية، أحمد بوادي، محمود سلطان، د - محمد بن موسى الشريف ، ياسين أحمد، صلاح المختار، حسني إبراهيم عبد العظيم، أ.د. مصطفى رجب، أنس الشابي، مراد قميزة، د - محمد بنيعيش، د. أحمد بشير، د. عادل محمد عايش الأسطل، د - ‏أحمد إبراهيم خضر‏ ، أحمد النعيمي، رحاب اسعد بيوض التميمي، فتحي العابد، طلال قسومي، إسراء أبو رمان، عواطف منصور، محرر "بوابتي"، فتحي الزغل، رافع القارصي، د. ضرغام عبد الله الدباغ، حاتم الصولي، عمار غيلوفي، صالح النعامي ، محمد شمام ، د- جابر قميحة، د - مصطفى فهمي، محمد اسعد بيوض التميمي، إيمى الأشقر، سليمان أحمد أبو ستة، محمد أحمد عزوز، عبد الله الفقير، د. عبد الآله المالكي، سلوى المغربي، إياد محمود حسين ، محمد الطرابلسي، حسن الطرابلسي، د - عادل رضا، الناصر الرقيق، عبد الغني مزوز، د - صالح المازقي، سعود السبعاني، حسن عثمان، أحمد ملحم، سيد السباعي، صفاء العراقي، د- هاني ابوالفتوح، وائل بنجدو، عبد الله زيدان، محمد الياسين، د.محمد فتحي عبد العال، يزيد بن الحسين، د. كاظم عبد الحسين عباس ، علي عبد العال، عبد الرزاق قيراط ، رضا الدبّابي، منجي باكير، صفاء العربي، د. مصطفى يوسف اللداوي، عمر غازي، حميدة الطيلوش، يحيي البوليني، عزيز العرباوي، د - المنجي الكعبي، تونسي، مصطفى منيغ، مصطفي زهران، فتحـي قاره بيبـان، خالد الجاف ، ماهر عدنان قنديل، محمد يحي، المولدي الفرجاني، جاسم الرصيف، كريم فارق، سامح لطف الله، أحمد بن عبد المحسن العساف ، العادل السمعلي، رشيد السيد أحمد، محمد العيادي، نادية سعد، سلام الشماع، سفيان عبد الكافي، د- محمود علي عريقات، رافد العزاوي،
أحدث الردود
مسألة الوعي الشقي ،اي الاحساس بالالم دون خلق شروط تجاوزه ،مسالة تم الإشارة إليها منذ غرامشي وتحليل الوعي الجماعي او الماهوي ،وتم الوصول الى أن الضابط ...>>

حتى اذكر ان بوش قال سندعم قنوات عربيه لتمرير رسالتنا بدل التوجه لهم بقنوات امريكيه مفضوحه كالحره مثلا...>>

هذا الكلام وهذه المفاهيم أي الحكم الشرعي وقرار ولي الأمر والمفتي، كله كلام سائب لا معنى له لأن إطاره المؤسس غير موجود
يجب إثبات أننا بتونس دول...>>


مقال ممتاز...>>

تاكيدا لمحتوى المقال الذي حذر من عمليات اسقاط مخابراتي، فقد اكد عبدالكريم العبيدي المسؤول الامني السابق اليوم في لقاء تلفزي مع قناة الزيتونة انه وقع ا...>>

بسم الله الرحمن الرحيم
كلنا من ادم وادم من تراب
عندما نزل نوح عليه السلام منالسفينه كان معه ثمانون شخصا سكنو قريه اسمها اليوم هشتا بالك...>>


استعملت العفو والتسامح في سياق انهما فعلان، والحال كما هو واضح انهما مصدران، والمقصود هو المتضمن اي الفعلين: عفا وتسامح...>>

بغرض التصدي للانقلاب، لنبحث في اتجاه اخر غير اتجاه المنقلب، ولنبدا بمسلمة وهي ان من تخلى عن مجد لم يستطع المحافظة عليه كالرجال، ليس له الحق ان يعامل ك...>>

مقال ممتاز...>>

برجاء السماح بإمكانية تحميل الكتب والمراجع...>>

جل الزعماء العرب صعدوا ،بطرق مختلفة ،تصب لصالح المخطط الانتربلوجي العسكري التوسعي الاستعماري،ساهموا في تبسيط هدم حضارة جيرانهم العربية او الاسلامية عم...>>

مقال ممتاز
لكن الاصح ان الوجود الفرنسي بتونس لم يكن استعمارا وانما احتلال، فرنسا هي التي روجت ان وجودها ببلداننا كان بهدف الاعمار والاخراج من ح...>>


الاولى : قبل تحديد مشكلة البحث، وذلك لتحديد مسار البحث المستقل عن البحوث الاخرى قبل البدء فيه .
الثانية : بعد تحديد مشكلة البحث وذلك لمعرفة الا...>>


بارك الله فيكم...>>

جانبك اصواب في ما قلت عن السيد أحمد البدوي .

اعلم أن اصوفية لا ينشدون الدنيا و ليس لهم فيها مطمع فلا تتبع المنكرين المنافقين من الوها...>>


تم ذكر ان المدخل الروحي ظهر في بداياته على يد شارلوت تويل عام ١٩٦٥ في امريكا
فضلا وتكرما احتاج تزويدي ب...>>


الدين في خدمة السياسة عوض ان يكون الامر العكس، السياسة في خدمة الدين...>>

يرجى التثبت في الأخطاء اللغوية وتصحيحها لكي لاينقص ذلك من قيمة المقال

مثل: نكتب: ليسوا أحرارا وليس: ليسوا أحرار
وغيرها ......>>


كبر في عيني مرشد الاخوان و صغر في عيني العسكر
اسال الله ان يهديك الى طريق الصواب
المنافقون في الدرك الاسفل من النار...>>


It is important that issues are addressed in a clear and open manner, because it is necessary to understand the necessary information and to properly ...>>

وقع تصميم الموقع وتطويره من قبل ف.م. سوفت تونس

المقالات التي تنشر في هذا الباب لا تعبر بالضرورة عن رأي صاحب موقع بوابتي, باستثناء تلك الممضاة من طرفه أومن طرف "بوابتي"

الكاتب المؤشر عليه بأنه من كتاب موقع بوابتي، هو كل من بعث إلينا مقاله مباشرة