د - المنجي الكعبي - تونس
من كتـــــّاب موقع بوّابــتي المشاهدات: 2585
يسمح بالنقل، بشرط ذكر موقع "بوابتي" مصدر المقال، ويفضّل أن يكون ذلك في شكل رابط
من آداب الانتخابات في الديمقراطيات الحديثة التي نُشِيد عادة بأصحابها، الإقرار بالنتائج الرسمية في صورة سلامتها من الطعون أو عدم المطالبة بإعادتها، وتهنئة الفائز بها أو الفائزين، ولو على مضض، لطبيعة الغلَب والفشل المستحكمة في الإنسان.
وللتقاليد الديمقراطية حرمتها في كثير من البلاد. ولكن التقاليد المتّبعة، في الدول الديمقراطية حقيقةً، يظهر أنها لم تنطبع بها بعض الأقلام أو بعض النفوس أو الأحزاب في بلداننا الحديثة عهداً بالأحزاب المتعددة وبالانتخابات التى تتولاها هيئات مستقلة.
ونحن، تجربتنا قصيرة وإن كانت موفقة في أكثر من مرحلة مررنا بها. وأمامنا الوقت، ربما أطول من اللازم لترسيخ عادتنا الجديدة بها، لتصبح لنا تقاليد، وتكون تماماً مثل نظيرتها في بلدان عريقة، أو غريقة الى الأذقان، في آداب الديمقراطية.
ومن يستمع الى معلّقينا على نتائج "التكميلية" في ألمانيا، يشعر بالأسى لانزعاج سياسيين معتبرين في أحزاب بعينها ومنظمات، ينعون حظهم بفوز السيد ياسين العياري. وبعضهم يرد ذلك الى البلد المستضيف لمكاتب الاقتراع، لانحصارها في عدد ضيق لأسباب أمنية ربما، أو سيادية، وللطقس، ولمستوى الحملة والتحضير لها ولكذا وكذا من الأسباب.. ومنها مهاترات الأحزاب الوطنية، وتدهور أوضاع البلاد بسببها، وأخيراً لما يسمونه ويؤكدون عليه: العزوف، أي ما يترجم فقدان الثقة أو انحسار الأمل لدى الناخبين للوضع الداخلي في بلادهم، وادخار - أكثرهم - أوقاتَهم وجهودهم ونفقاتهم على الغُدوّ والرواح الى مكاتب الانتخاب.
وهذا كله كان ينبغي أن لا يكون مثار انزعاج بقدر ما هو داع للسرور، لأن نتائج الانتخابات ما هي إلا المسبار الصحيح لأوضاعنا، التي هي باستمرار محل أخذ ورد بين الطبقة السياسية، بين مكذب لبعض ومضخم لأخطاء بعض، ومزكّ لنفسه على غيره، وما الى ذلك من المغالطات والتزييف، التى لا مجال لتأكيدها أو فضحها إلا بالديمقراطية ولسان حالها الانتخابات. وإلا فلا معنى لادعاء الحياد والشفافية إذا كانت الديمقراطية لا تكشف زيفَ هذا من ذاك وإخلاص هذا دون ذاك.
وكلما تقدّمْنا ذراعاً بالديمقراطية تقدمنا أمتاراً في التقاليد الديمقراطية، بل فهماًً صحيحاً لجدواها، كيفما كانت النتائج لصالحنا أو لصالح غيرنا، لأنها سليمة وشفافة وديمقراطية. وعندها يقوى الأمل لدينا للإقبال عليها وللتنافس فيها، لأنها المحك لجوهر أعمالنا وأقوالنا، والمرآة الصافية لنضج أحْزِبَتنا (جمع حزب على غير قياس للتنديد بكثرتها) وعَجْم عُود زعمائنا.
وسنرى كيف يقِلّ، بانتظام الانتخابات، العزوفُ عنها؛ لتصبح الأحزاب في حُمّى الانتظار لها، لدعم شرعيتها وتوسيع دائرة تأثيرها وتصحيح مساراتها، والأهم استثمار النتائج التى تتوصل اليها بفضلها لتحسين رصيدها من التطلع الى الحكم أو استدراك أمرها للتداول مرة ومرة عليه.
ولولا التعقل والحكمة والإذعان لنداء الواقع، والتعامل مع الموجود، وتقديم المهم على الأهم، واحترام قرار الصندوق، أو بالأحرى نتائجه، لأخطأنا، من الأوّل، في القبول بنتائجَ لم يكن ليشتهيها بعضنا بصعود بعضٍ في رتبة الأصوات والمقاعد في انتخابات 2011، الأولى بعد الثورة، وانتخابات 2014، الأولى بعد الدستور الجديد. ولكن صوت الحكمة لم يغب عن سمع الأستاذ الباجي وبطبيعة الحال سمع الشيخ راشد، وربما أعانا معاً عليه، ليبلغ صداه كثيراً من قيادات الأحزاب والشخصيات التى تآلفت معهما.
والخوف من هذا العزوف.. باعتباره ظاهرة سلبية مفهوم من البعض، في حين نراه علامة صحة، لأنه سيفتح العينين على تمَشينا السليم في التعالُج بالديمقراطية، لتقوية مناعة أنفسنا من السقوط في صراع الأضداد، لحسم التداول على السلطة بالانقلابات الشبه دستورية وتزييف الانتخابات، كما كان المشاهد الى ماض قريب عندنا.
والتعامل بأريحية مع الخصوم، عندما تؤيدهم النتائج الشعبية، قد يساعد على تحويل شوكتهم الى العدو المشترك، وهو سوء الفهم أو قلة الثقة أو انعدام الحوار أو غياب العدالة والكرامة أمامهم، وافتقاد ما يسمى في الإسلام: الإحسان والسماحة؛ ويكونون ظهيراً على الخصم المشترك، وهو الأنانية وحب الذات وتقديم الفردية على الحزبية على الوطنية.
والأمر حريّ أن يلفت نظر المشرّعين لما فيه من مفارقة، بين وضعية هذه الدائرة للمهاجرين بألمانيا في الانتخابات الأصلية بمترشح وحيد دون منافس وهذه الانتخابات التكميلية، التي تهاطلت عليها الترشحات. لأنها بدون سابقة فيما أعتقد، وكالمفتعلة لغاية بعينها. وكونها فاجأت، فلعلها لم تفاجئ إلا لأن الانتخابات في تونس لم يعد كالسابق من المتوقع ترسيم نتائجها.
وهذه الحالة قد تحيل الى مسألة التعويض في القائمة الواحدة لمن يغادر النيابة لمهمة حكومية بمن يليه في قائمته، دون أن يبقى له حق بالرجوع الى مقعده البرلماني إذا غادر الحكومة، على سبيل التعويض الوقتي، لأنه لا يشابه الاستقالة، وإنما أوْجَبته حالة عدم الجمع. وقد ناقشنا الموضوع في مقال سابق.
أما الوعيد، بأن الانتخابات القادمة سوف لا تكون كهذه أو على منوالها أو حتى اعتباره كالاستثناء منها.. فهذا يحسن فهمه على أنه وعْد وتحفيز لانتخابات ماي القادم، لا على معنى التعاطي معها بوسائل الغش والرشوة والإكراه على القواعد والأصول، لتبييض الوجه. فهذا لا يُطَمْئن الى أننا دخلنا في عصر الانتخاب السري، الحر، النزيه، الشفاف، وما الى ذلك من ألفاظ، كالهرّ يحكي صولة الأسد!
فربما سوّل الأمر لبعض النفوس المختلّة طَرْق باب الانتقام أو الاغتيال لشغور الكرسي لمن والاه. فالمرء هو ما يكون لسانه وفؤاده.
------------
تونس في ٢١ ديسمبر ٢٠١٧
اضغط على الكلمات المفتاحية التالية، للإطلاع على المقالات الأخرى المتعلقة: