البدايةالدليل الاقتصادي للشركات  |  دليل مواقع الويبالاتصال بنا
 
 
 
المقالات الاكثر قراءة
 
تصفح باقي الإدراجات
أحدث المقالات

مضايا… شهيدة الجوع وموت الضمير

كاتب المقال د. مثنى عبدالله - باريس    من كتـــــّاب موقع بوّابــتي
 المشاهدات: 2813


 يسمح بالنقل، بشرط ذكر موقع "بوابتي" مصدر المقال، ويفضّل أن يكون ذلك في شكل رابط


تحركت الأمم المتحدة أم لم تتحرك.. وافقت الحكومة السورية أم لم توافق.. سمح حزب الله أم لم يسمح، فالامر سيان لأهلنا في هذه المدينة المنكوبة.

فلم يعد الغذاء والدواء يعنيان لهم شيئا، بعد أن حصلت الجريمة وبات كل شيء منسوجا في الذاكرة. تصوروا في القرن الواحد والعشرين، يتجول الجوع والموت يدا بيد في أحياء المدينة وأزقتها، ويزوران بيوتها بيتا بيتا. ينزع الجوع اللحم عن عظام أهلها واحدا تلو الآخر، ويقدمهم إلى الموت المتبختر بجلجلة لقمة سائغة. عيون جاحظة مملؤة بالأسى وآلاف الأسئلة، وجلود شفافة تحسب من ورائها الأضلاع ضلعا بعد آخر، وأوجاع وآمال مؤجلة. حتى الموت تقزز من المشاهد في مضايا.. حتى العار خجل من جريمة مضايا، فلا شيء يمشي أو يحبو أو ينبت فيها بعد اليوم، فقد قضى أهلها على كل القطط والكلاب والحشرات والديدان وأوراق الشجر وجذوعها وجذورها وحتى الحشائش، بل حتى النفايات أكلها اهلنا في مضايا، أملا في أن تستر العلب الفارغة والأكياس البلاستيكية عظامهم كي لا تذوب، وعندها لن يستطعوا أن يحبوا على الأرض ويظهروا على العالم كمادة إعلامية دسمة.

من المسؤول؟ لم يعد لهذا السؤال الأحمق أي معنا بعد اليوم. فالعالم المتحضر منشغل أن لا تحدث «شارلي إيبدو» مرة أخرى في باريس أو في عواصم غربية أخرى، وأن لا تحدث حالات تحرش في احتفالات رأس السنة في العام المقبل، وأن تحضيرات مؤتمر جنيف المقبل، وكيف يتقاسم الامريكان والروس والايرانيون سورية هو الاهم. فأهل مضايا ليسوا أقلية دينية أو عرقية، كي يستثمرها الغرب فيلقي علينا دروسا في الثقافة الأوروبية وحقوق الإنسان والحيوان والأشجار, فيهب إليهم ويلقي ملء أوديتهم وسهولهم أغذية وأغطية وأفرشة وملابس، ولا لزوم كي يرسل إليهم طائراته وعناصر قواته الخاصة، كي تحط على جبالهم وتحمل المرضى والنساء والأطفال إلى أماكن اللجوء الأوروبية والأمريكية، كما ليسوا بحاجة لترشيح أحد منهم لجائزة نوبل، لأنه قاوم الجوع والموت أشهرا طويلة، وحافظ على أضلاعه بازغة في عيون الحضارة، باصقة في وجوه كل من شارك في الجريمة. إن برنامجهم بحاجة إلى من يقص على العالم حكاية كيف يذبح المسلمون الآخرين، وكيف يسبون النساء ويحتجزوهن في المغارات والكهوف، وكيف يبيعوهن في سوق النخاسة. ليس المهم إن كانت القصص صادقة أم مفبركة، حقيقية أم من صنع شركات العلاقات العامة. المهم هو أن يبقى الغرب يعلن أنه في حالة حرب مع عدو، لأنه لا يستطيع العيش بدون عدو خارجي. لقد انتهوا من العدو الشيوعي في الاتحاد السوفييتي السابق، والاحتفالات التي كانت تعقد للمنشقين عنه، والقصص والروايات التي كانت تكتب وتقرأ عن مظالم الشيوعية، وبات اليوم العدو الجديد هو العرب والإسلام، والاهتمام الجديد هو صنع النموذج الغربي الذي يساعد وينتصر وينتخي للأقليات الدينية والإثنية من ظلمنا. هي صناعة جديدة لقيم غربية يجب أن تعلو، وقيم عربية يجب أن تداس. والهدف جعل أجيالنا تتيه في زحمة التغريب والاستلاب واللاوعي وجلد الذات إلى ما لانهاية.

يقينا أن مأساة أهلنا في مضايا تبيح لنا أن نكفر ببشار الأسد حتى لو كان نبيا، رئيسا شرعيا أم غير شرعي، وأن نكفر بحزب الله حتى لو كانت دماء مقاومته تخر من بين يديه وأذرعه، وأن نلعن كل الساكبين الزيت على النيران السورية، وأن نبصق في وجه الحضارة الغربية، وكل القيم الإنسانية التي يتشدقون بها. واعجبا على الأعماق العربية التي تجمدت فيها العروبة، حتى بات المسؤول العربي ينام ملء جفنيه ولا تتراءى له العيون الجاحظة التي انطفأت فيها الحياة، ولا يرى الأضلاع البارزة في الصدور. فمن لا يرى بضميره لن تسمح له جدران القصور الرئاسية السميكة أن يرى مأساة أهله، ولن تسمح له الحاشية والتابعون سماع آهاتهم، فهم حريصون على أن لا يتعكر مزاجه. وحده الضمير الحي هو الذي يتحول إلى حبال قوية تربط القلوب والمشاعر مع الناس، فيصبحون موجودين مع المسؤول بآمالهم وأحلامهم ومشاعرهم.. وحده الذي يتحول إلى نسغ صاعد ونسغ نازل بين المسؤول الشريف وشعبه، فينقل إليه الآهات والمظالم وينقل منه إليهم النصرة ورفع الظلم والنخوة.

أما عكس ذلك فعلينا جميعا أن نتحسس أضلاعنا، وأن ننظر في وجوه أطفالنا مليا، لأن أضلاعنا سيحسبها الآخرون لنا كما نفعل مع أهل مضايا اليوم، وأن عيون أطفالنا ستجحظ أيضا كما أطفال مضايا، فالنهاية التي وصلوا اليها تتربص بنا جميعا. من يعصمنا من هذه المأساة إن بقينا نتكيف مع الظلم والجوع وهدر الكرامة، من دون الشعور بأننا نفقد جزءا من ذواتنا. إنه إعلان أكيد بأن دواخلنا علاها الصدأ فبتنا لا ننتفض مع كل صرخة ألم في سوريا والعراق واليمن وفلسطين. كيف لا تتمدد بقية نخوة أو ذرة شرف أو ثلمة كرامة، فتتجمع وتصبح جمرة تجعلنا ننتفض من سبات طال زمنه، فتهتز القلوب والعقول وتنطلق من عقالها المتحنطة فيه زمنا طويلا. هل حقا يمكن للانسان أن يدمن الحزن والظلم وهدر الكرامة، فيلوذ بالصمت حتى يؤاخي الحجر؟

يا مضايا، أكاد أسمع الأنين غير المسموع من كل أهلنا هناك، فلقد خارت كل قواهم حتى باتوا لا يستطيعون الأنين، حتى أنفاسهم باتت تتردد مملؤة بالحزن، الذي يبصق في وجه الفرح الغامر لكل المقامرين بسوريا وأهلها. عيونهم وحدها التي بقيت تتكلم، وبعضها وجدت أن لا جدوى منه فغادرت الحياة، محملة بأحلام وأمان صغيرة أو كبيرة كلها لم تتحقق. كانوا يريدون من الآخرين أن يمدوا يدا كي ينقذوهم مما هم فيه، لكن الآخرين كانوا مشغولين بحسابات الحقل والبيدر، فتثاقل عليهم الألم حد اللامعقول. كانت أمنيتهم أن يصرخوا متسائلين، عمن هو الذي نصب له خيمة في حدود سورية حين ألمت به عاصفة اللجوء. كان لسان حالهم يقول، إسألوا الفلسطينيين واللبنانيين والعراقيين وغيرهم من العرب. إسألوهم هل نصبوا خيمهم على الحدود، وهل جاع أحد منهم، أو تعذر عليه العلاج حين مرض، أو لم يستطع أولاده الالتحاق بالمدرسة؟ لا أحد. إذن لم كل هذا الجحود مع أهلنا في سوريا، إلى الحد الذي ركبوا فيه البحار، نساء وأطفالا وشيبا وشبابا كي يصلوا إلى آخر الدنيا، بعد أن وجدوا أنفسهم في هذا المدى اللامتناهي مع الصمت العربي، فهبط عليهم اليأس وملأ عليهم الحياة، بعد أن اقتحم بيوتهم وعقولهم وقلوبهم حزنا وجحودا.
أكاد ألمس حزنكم يا أهلي وأشقائي وأولادي في مضايا، فلقد أصبحتم مجرد خيال تدلنا الملامح والاضلاع على أنه إنسان، فلا عاصم لنا بعدكم، بعد أن بتنا نقلب صوركم سريعا كي لا نرى مأساتكم التي تلطخ ملامحنا بالعار.


 اضغط على الكلمات المفتاحية التالية، للإطلاع على المقالات الأخرى المتعلقة:

سوريا، مضايا، حصار مضايا، الحرب الأهلية بسوريا، الثورة السورية، الموت جوعا، المجاعة بسوريا،

 





تاريخ نشر المقال بموقع بوابتي 12-01-2016  

تقاسم المقال مع اصدقائك، أو ضعه على موقعك
لوضع رابط لهذا المقال على موقعك أو بمنتدى، قم بنسخ محتوى الحقل الذي بالأسفل، ثم ألصقه
رابط المقال

 
لإعلام أحدهم بهذا المقال، قم بإدخال بريده الإلكتروني و اسمك، ثم اضغط للإرسال
البريد الإلكتروني
اسمك

شارك برأيك
لوحة مفاتيح عربية بوابتي
     
*    الإسم
لن يقع إظهاره للعموم
     البريد الإلكتروني
  عنوان المداخلة
*

   المداخلة

*    حقول واجبة الإدخال
 
كم يبلغ مجموع العددين؟
العدد الثاني
العدد الأول
 * أدخل مجموع العددين
 
 
 
أكثر الكتّاب نشرا بموقع بوابتي
اضغط على اسم الكاتب للإطلاع على مقالاته
محمد شمام ، د - محمد بنيعيش، محمد يحي، فتحي العابد، سفيان عبد الكافي، أحمد النعيمي، صلاح المختار، صفاء العراقي، د - محمد بن موسى الشريف ، رحاب اسعد بيوض التميمي، محمود سلطان، خبَّاب بن مروان الحمد، د. مصطفى يوسف اللداوي، محمود فاروق سيد شعبان، رافع القارصي، نادية سعد، مصطفى منيغ، الهيثم زعفان، رشيد السيد أحمد، أ.د أحمد محمّد الدَّغَشِي ، علي الكاش، د. أحمد محمد سليمان، عمار غيلوفي، د- محمد رحال، رافد العزاوي، د- هاني ابوالفتوح، د- محمود علي عريقات، عراق المطيري، فتحي الزغل، سامر أبو رمان ، سليمان أحمد أبو ستة، حسني إبراهيم عبد العظيم، سعود السبعاني، محرر "بوابتي"، يزيد بن الحسين، علي عبد العال، ياسين أحمد، د - شاكر الحوكي ، محمد عمر غرس الله، صباح الموسوي ، يحيي البوليني، صفاء العربي، فتحـي قاره بيبـان، ضحى عبد الرحمن، أحمد بوادي، فوزي مسعود ، حسن الطرابلسي، د. ضرغام عبد الله الدباغ، أحمد ملحم، فهمي شراب، محمد اسعد بيوض التميمي، العادل السمعلي، سيد السباعي، إياد محمود حسين ، محمد الطرابلسي، د. خالد الطراولي ، محمد الياسين، تونسي، أ.د. مصطفى رجب، د - المنجي الكعبي، أحمد الحباسي، عبد الرزاق قيراط ، رضا الدبّابي، سلام الشماع، د. عادل محمد عايش الأسطل، أشرف إبراهيم حجاج، د. عبد الآله المالكي، د.محمد فتحي عبد العال، حاتم الصولي، د - صالح المازقي، سامح لطف الله، المولدي الفرجاني، جاسم الرصيف، أحمد بن عبد المحسن العساف ، طلال قسومي، مصطفي زهران، د - مصطفى فهمي، خالد الجاف ، الهادي المثلوثي، الناصر الرقيق، صلاح الحريري، مجدى داود، محمد أحمد عزوز، عبد الله زيدان، د- جابر قميحة، حميدة الطيلوش، د. طارق عبد الحليم، د - الضاوي خوالدية، عواطف منصور، د - عادل رضا، عبد الله الفقير، د. أحمد بشير، منجي باكير، د - ‏أحمد إبراهيم خضر‏ ، عبد الغني مزوز، كريم السليتي، أبو سمية، عزيز العرباوي، ماهر عدنان قنديل، إيمى الأشقر، محمد العيادي، أنس الشابي، سلوى المغربي، إسراء أبو رمان، عمر غازي، كريم فارق، مراد قميزة، حسن عثمان، صالح النعامي ، د. كاظم عبد الحسين عباس ، رمضان حينوني، وائل بنجدو، د. صلاح عودة الله ، محمود طرشوبي،
أحدث الردود
مسألة الوعي الشقي ،اي الاحساس بالالم دون خلق شروط تجاوزه ،مسالة تم الإشارة إليها منذ غرامشي وتحليل الوعي الجماعي او الماهوي ،وتم الوصول الى أن الضابط ...>>

حتى اذكر ان بوش قال سندعم قنوات عربيه لتمرير رسالتنا بدل التوجه لهم بقنوات امريكيه مفضوحه كالحره مثلا...>>

هذا الكلام وهذه المفاهيم أي الحكم الشرعي وقرار ولي الأمر والمفتي، كله كلام سائب لا معنى له لأن إطاره المؤسس غير موجود
يجب إثبات أننا بتونس دول...>>


مقال ممتاز...>>

تاكيدا لمحتوى المقال الذي حذر من عمليات اسقاط مخابراتي، فقد اكد عبدالكريم العبيدي المسؤول الامني السابق اليوم في لقاء تلفزي مع قناة الزيتونة انه وقع ا...>>

بسم الله الرحمن الرحيم
كلنا من ادم وادم من تراب
عندما نزل نوح عليه السلام منالسفينه كان معه ثمانون شخصا سكنو قريه اسمها اليوم هشتا بالك...>>


استعملت العفو والتسامح في سياق انهما فعلان، والحال كما هو واضح انهما مصدران، والمقصود هو المتضمن اي الفعلين: عفا وتسامح...>>

بغرض التصدي للانقلاب، لنبحث في اتجاه اخر غير اتجاه المنقلب، ولنبدا بمسلمة وهي ان من تخلى عن مجد لم يستطع المحافظة عليه كالرجال، ليس له الحق ان يعامل ك...>>

مقال ممتاز...>>

برجاء السماح بإمكانية تحميل الكتب والمراجع...>>

جل الزعماء العرب صعدوا ،بطرق مختلفة ،تصب لصالح المخطط الانتربلوجي العسكري التوسعي الاستعماري،ساهموا في تبسيط هدم حضارة جيرانهم العربية او الاسلامية عم...>>

مقال ممتاز
لكن الاصح ان الوجود الفرنسي بتونس لم يكن استعمارا وانما احتلال، فرنسا هي التي روجت ان وجودها ببلداننا كان بهدف الاعمار والاخراج من ح...>>


الاولى : قبل تحديد مشكلة البحث، وذلك لتحديد مسار البحث المستقل عن البحوث الاخرى قبل البدء فيه .
الثانية : بعد تحديد مشكلة البحث وذلك لمعرفة الا...>>


بارك الله فيكم...>>

جانبك اصواب في ما قلت عن السيد أحمد البدوي .

اعلم أن اصوفية لا ينشدون الدنيا و ليس لهم فيها مطمع فلا تتبع المنكرين المنافقين من الوها...>>


تم ذكر ان المدخل الروحي ظهر في بداياته على يد شارلوت تويل عام ١٩٦٥ في امريكا
فضلا وتكرما احتاج تزويدي ب...>>


الدين في خدمة السياسة عوض ان يكون الامر العكس، السياسة في خدمة الدين...>>

يرجى التثبت في الأخطاء اللغوية وتصحيحها لكي لاينقص ذلك من قيمة المقال

مثل: نكتب: ليسوا أحرارا وليس: ليسوا أحرار
وغيرها ......>>


كبر في عيني مرشد الاخوان و صغر في عيني العسكر
اسال الله ان يهديك الى طريق الصواب
المنافقون في الدرك الاسفل من النار...>>


It is important that issues are addressed in a clear and open manner, because it is necessary to understand the necessary information and to properly ...>>

وقع تصميم الموقع وتطويره من قبل ف.م. سوفت تونس

المقالات التي تنشر في هذا الباب لا تعبر بالضرورة عن رأي صاحب موقع بوابتي, باستثناء تلك الممضاة من طرفه أومن طرف "بوابتي"

الكاتب المؤشر عليه بأنه من كتاب موقع بوابتي، هو كل من بعث إلينا مقاله مباشرة