سلوك المرض: بحث موجز في علم الاجتماع الطبي

حسني إبراهيم عبد العظيم - مصر من كتـــــّاب موقع بوّابــتي
المشاهدات: 9159

يسمح بالنقل، بشرط ذكر موقع "بوابتي" مصدر المقال، ويفضّل أن يكون ذلك في شكل رابط

يرى علماء الاجتماع أن المرض ليس حدثاً عضوياً فقط، وإنما هو - فوق ذلك - ظاهرة اجتماعيـــــة معقدة، ترتبط بالعديــــد من المتغيرات الاجتماعية والثقافية، ويعتقد العلماء أن اخــتزال المرض في بعــــده البيولـــــوجي فقــط ينتج فهماً قاصـــــراً ومشــــوهاً لتلك الظاهرة.(حسني إبراهيم عبد العظيم 2:2009)

فعندما يستخدم العلماء المهتمون بقضايا الصحة والمرض مفهوم المرض فإنهم يقصدون معنيين: الأول أن مفهوم المرض يشير إلى مصطلح علمي محدد (وفق النموذج الطبي للمرض) Medical Model والثاني أن ذلك المفهوم يشير إلى حالة أو عَرَض يقلق الفرد، ويجعله يبحث عن المساعدة، واستناداً إلى ذلك فإن مفهوم سلوك المرض Illness behavior يشير إلى أي فعل يتعلق بالمعنى الثاني.(Mechanic 1978:149)

والحق أن الفضل في صياغة مصطلح سلوك المرض يعود إلى (ديفيد ميكانيك) أحد أهم رواد علم الاجتماع الطبي، حيث قدم المفهوم إلى الحقل السوسيولوجي في عام 1950 ليصف التباينات الواسعة في ردود أفعال الأفراد حول الأعراضSymptoms والأمراضIllnesses ويحدد العوامل المتنوعة – الاجتماعية والثقافية والبيئية والنفسية - التي تؤثر في ردود الأفعال تلك. ويرى ميكانيك أنه على الرغم من أن المصطلح جديد نسبياً، إلا أن مضمونه قديم، حيث يرجع إلى مقالة (هنري سيجرست)H. Siegrest التي حملت عنوان الوضـع الخاص للمريض The special position of the sick في عام 1929، ويرجع كذلك إلى نموذج بارسونز حول دور المريض Sick Role حيث ساهمت هذه الجهود في تأسيس نظرة مغايرة للمرض تتجاوز المنظور الطبي، مضمونها أن التعامل مع المرض يمثل عملية إدارة شدائد الحياة Manage life adversities أو كما يسميها (سيجرسـت) الكفاح من أجل العيش The struggle of living وبالتالي لم يعد المرض يشير إلى حالة المريض فقط، وإنما أضحى يمثل نمطاً للتكيف Mode of coping ز . (Mechanic 1995:1208)

قدم ( ميكانيك) و (فولكارت) Volkart أول تعريف لسلوك المرض في عام 1961 في دراسة عنوانها: الضغط، سلوك المرض، ودور المريض Stress, Illness behavior and Sick role في المجلة الأمريكية لعلم الاجتماع، حيث أوضحا أن سلوك المرض يصف الطريقة التي يدرك بها الفرد أعراض المرض ويقيَّمها ويتصرف حيالها، حينما يلاحظ بعض الآلام، أو عدم الراحة، أو أية مؤشرات أخرى لسوء الأداء العضوي.(Young 2004:2),

إن مفهوم سلوك المرض – كما يتصوره ميكانيك – يصف السبل التي يستجيب من خلالها الأفراد للشواهد والظروف الجسدية التي يكابدونها، وتجعلهم يشعرون بأنهم في وضع غير سليم عضوياً، ولذا فإن سلوك المرض يتضمن الطريقة التي يراقب Monitor بها الأفراد أجسادهم، ويحددون أعراضهم المرضية ويفسرونها، ومن ثم يتخذون فعلاً علاجياً، ويستفيدون من مصادر العون المتاحة في النسق الطبي. إن أنماط الإدراك والتقييم والاستجابة للمرض يكون لها في أحيان كثيرة تأثيرات هائلة على روتين الحياة اليومية، ومدة المرض، والحصول على الرعاية المناسبة، وتفاعل المريض مع العلاج. والواقع أن المتغيرات المؤثرة في سلوك المرض غالباً ما تحدث تأثيراتها بصورة واضحة قبل أي تدخل علاجي.(Mechanic 1986:1)

ويؤكد ‘ميكانيك’ أن أعراض المرض يتم إدراكها وتقييمها والتصرف حيالها بطريقة شديدة التباين، تبعا لتباين الأفراد، وتباين المواقف الاجتماعية والخبرات المرضية، وكذلك تباين القدرات العضوية. وبناءً على ذلك نجد أن بعض الأفراد يستخفون بالمرض، ويتحاشون البحث عن المساعدة الطبية، في حين نجد آخرين يستجيبون للقدْر الضئيل من الألم وعدم الراحة، ويبحثون بجدية عن العلاج، كما أنهم يعفون أنفسهم من العمل والواجبات الأخرى، بل ويصبحون أكثر اعتماداً على الآخرين.(Mechanic 1978:249)

ويخلص ميكانيك إلى تقديم تعريف محدد لسلوك المرض فيقول إن سلوك المرض يشير إلى طرق الاستجابة للتغيرات العضوية، وتفسيرها وكيفية التصرف تجاهها، كما يتضمن المفهوم متى يتخذ الفرد فعلاً علاجياً، وكيف يستفيد من مصادر العلاج الرسمي وغير الرسمي. (Mechanic 1995:1208)

يتضح مما سبق ان ‘ديفيد ميكانيك’ قد أسهم في صياغة مفهوم سلوك المرض وبلورته، ووضع أساساً رصيناً لبناء نظري متكامل حول هذه القضية، وتكمن أهمية إسهام ميكانيك في أنه لفت انتباه الباحثين لأهمية هذا المفهوم، وناقش أهم الأبعاد المرتبطة بدراسته.

وتأسيساً على الرؤية التي طرحها ‘ميكانيك’ لمفهوم سلوك المرض، احتل ذلك المفهوم مكاناً بارزاً في معاجم علم الاجتماع الطبي، فيطرح (معجم علم الاجتماع الطبي) Dictionary of Medical Sociology تعريفاً مبدئياً مؤداه: أنه ذلك النشاط الذي يباشره الشخص الذي يشعر بالمرض من أجل تشخيص ذلك المرض والشفاء منه. (Cockerham, W.& Ritchey, F1997:71) ويعرِّف (معجم سيج للصحة والمجتمع) The Sage Dictionary of Health and Society سلوك المرض بأنه الأفعال التي يقوم بها الفرد الذي يعاني من أعراض مرضية محددة(White 2006:111).

وقدم العديد من الباحثين تعريفات متنوعة لذلك المفهوم، فيذكر ‘ديفيد تاكت ‘D. Tuckett’ أن سلوك المرض يشير إلى الأنشطة التي يقوم بها الشخص الذي يعاني من أعراض معينة لتحديد حالته الصحية، ومحاولة اكتشاف العلاج الملائم لها. (Tuckett 1978:166-167)

ويرى ‘بيدل وزملاؤه’(Biddle, et.al.2007:984) أن سلوك المرض ليس قراراً بسيطاً متعلقاً بالبحث عن المساعدة الطبية المتخصصة، وإنما هو عملية طويلة ومتعددة الأوجه multi-faceted تتكون من عدد من الاستراتيجيات الفنية أثناء التعامل مع الأعراض المرضية.

ويحدد ‘وينرايت’ Wainwright سلوك المرض بأنه الاستجابة المباشرة للخلل العضوي بالجسد، بحيث يتعهد الفردُ المرضَ الذي سبب ذلك الخلل، ويتصرف نحوه بطريقة معينةWainwright 2008:78).)

ويصف ‘دنجوول’ Dingwall سلوك المرض بأنه فعل اجتماعي هادف ومشروط بالمعاني المقترنة بالمرض، ويتكون ذلك الفعل من ثلاث مراحل: عملية تقييم الأعراض evaluating symptoms اتخاذ قرار بتصرف ما deciding to act ومراقبــــة آثار الفعل Monitoring the effects of actins ز . (Biddle, et.al.2007:984-985)

ويحدد ‘علي مكاوي’ سلوك المرض بأنه رد فعل من جانب المريض، ومظهر مهم في تعريف المرض، وفي استجابة المريض للعلاج، ويلعب الألم pain دوراً مؤثراً في لجوء المريض إلى الخدمة الصحية، وفي التعبير عن المرض بشكل يفوق تأثيره الحدوث الفعلي للمرض، وبالتالي فإن سلوك المرض يعد استجابة تلاؤمية، إذ أن الشكوى من المرض الحاد قد تكون طريقة للتأكيد على المرض ذاته، وعلى طلب العون من خلال العلاقة المقبولة اجتماعيا. وقد أشار العديد من محللي الاستشارات الطبية ألى أن الأعراض الفيزيقية غالباً ما تخفي ورائها مشكلة وجدانية تدفع المريض إلى طلب المساعدة الطبية.(علي مكاوي302:1990)

ويعرف ‘محمد مدحت جابر’ سلوك المرض بأنه استجابة الفرد للأعراض الجسمية غير الطبيعية، ويحدد مثل هذا السلوك ما يفعله الفرد بجسده، وكيف يحدد ويشرح أعراضه، ويتخذ اجراءات علاجية من خلال نظام الرعاية الصحية، ويرتبط مفهوم سلوك المرض بمفهوم السـلوك الصحيhealth behavior الذي يتضمن الممارسـات والاتجـاهات التي يقــوم بها الأفـراد، وتحــدد ســلوكهم تجاه الصحــــة والمرض.(مدحت جابر135:2010و157)

وتأكيداً للعلاقة بين مفهومي سلوك المرض والسلوك الصحي يرى ‘ريدر’ Ridder و’ويت’ Wit أن الصحة الجيدة تعد مسألة مهمة لكل الناس، ويدرك الناس أن سلوكهم يلعب دوراً حاسماً في تمتعهم بصحة بدنية جيدة، ولدى أغلب الناس نوايا طيبة نحو السلوك الصحي، ورغم هذه النوايا الطيبة فإن معظم الناس يجدون صعوبة في الأداء الدائم لهذه السلوكيات، فثمة صعوبة في تغيير العادات السيئة من جهة، وثمة صعوبة أكبر في الحفاظ على العادات الصحية السليمة من جهة أخرى. (Ridder & Wit 2006:1)

ومن خلال ما تم طرحه من تعريفات متعددة لمفهوم سلوك المرض، يمكن تعريفه بأنه عملية اجتماعية ديناميكية تتضمن إدراك الفرد ووعيه بأنه يعاني من اضطراب محدد، وتفسير الفرد لهذا الاضطراب وتقييمه له، وبناءً على ذلك يتخذ الفرد – أو لا يتخذ – فعلاً علاجياً معيناً في النسق الطبي الرسمي أو غير الرسمي.

اضغط على الكلمات المفتاحية التالية، للإطلاع على المقالات الأخرى المتعلقة:

علم الاجتماع، علم الاجتماع الطبي، دراسات اجتماعية، دراسات علمية،

6-02-2015

لوضع رابط لهذا المقال على موقعك أو بمنتدى، قم بنسخ محتوى الحقل الذي بالأسفل، ثم ألصقه

رابط المقال

لإعلام أحدهم بهذا المقال، قم بإدخال بريده الإلكتروني و اسمك، ثم اضغط للإرسال

البريد الإلكتروني

اسمك