أنس الشابّي - تونس
من كتـــــّاب موقع بوّابــتي المشاهدات: 7056
يسمح بالنقل، بشرط ذكر موقع "بوابتي" مصدر المقال، ويفضّل أن يكون ذلك في شكل رابط
يلحظ المتابع للحياة السياسيّة والثقافيّة منذ 14 جانفي 2011 مؤشرات لمعركة محتملة افتعلت من طرف من يُسَمُّون أنفسهم دعاة التنوير وذلك عن طريق استفزاز تتصاعد وتيرته يوما بعد يوم وكانت بداياته في اجتماعات هيئة حماية الثورة حيث ذهب البعض إلى الدعوة إلى إعادة النظر في الفصل الأوّل من الدستور والتطبيع مع إسرائيل ورفض قراءة الفاتحة على أرواح شهداء جيشنا الوطني ومناقشة فتح مقهى الهيئة في رمضان.... وتواصلت الحملة في وسائل الإعلام حيث أدلى الطالبي والفاني بدَلوهِما إلى أن وصلنا اليوم إلى ما عليه الحال حيث عرضت قناة نسمة فيلما فارسيا دُبلج إلى العاميّة التونسيّة أثار استياء دفع بصاحب القناة إلى الاعتذار.
واللافت للانتباه باستقراء جملة ردود الأفعال أنها انتقلت بالخصومة من إطارها السياسي بين أحزاب وكتل متنافرة إلى تناقض موهوم بين العقيدة والديمقراطية حيث قامت أقليّة القلة بالانحراف بالموضوع إلى مربّع الإيمان والكفر والحال أن المسألة لم تخرج في نظرنا عن إطارها السياسي لأن الخصومة بدأت مباشرة بعد 14 جانفي بين اتجاهين سياسيّين الأوّل منهما مثلته حركة النهضة العائدة قيادتها من الخارج والثاني جمع تحت عباءته أبناء الداخل ممّن ارتموا في العشر سنوات الأخيرة في أحضان العهد البائد يحاربون ذاتيّة الأمة وقِيَمَها مستغلين في ذلك فراغ الساحة إلا من رحم ربك. ولأن قيادة النهضة اختارت الانصياع إلى أقليّة القلة وارتضت التنازل لهم عن كلّ ما يمكن أن يميّزها ويبرّر وجودها رفعت هذه المجموعة من سقف مطالبها إلى أن وصلت الأمور حدًّا لا يطاق وأصبح السكوت خيانة في حق الوطن وأبنائه.
يلحظ المتابع لما يجدّ في الساحة السياسيّة ولِما يصدر عن وسائل الإعلام ودور النشر وغيرهما وجود مجموعة قليلة العدد ولكنها كثيرة الحركة والهرج تعمل على إيهام الناس بطرحها مسائل وقضايا وإشكاليات فكريّة ودينيّة ولكنها في الواقع تستهدف تشويه ذاتيّة الأمة ومسخ شخصيّتها باقتلاعها من جذورها الحضاريّة وانتمائها الجيوسياسي، فالتونسي ليس كائنا هلاميّا أو كونيّا حتى تصوغه أقليّة القلة تحت ستار حرية موهومة بل هو كائن صنعه التاريخ وعركته الجغرافيا وأكسبه ثباته على هذه الأرض مضامين ثقافيّة وعقائديّة وعادات وتقاليد وَحَّدَت مشاعر أبنائه وأكسبتهم شخصيّة جعلتهم يختلفون حتى عن أقرب جيرانهم وهو ما تفطن إليه كلّ الذين أرَّخوا لتونس الوطن والعباد، من ذلك أن ابن أبي دينار تحدّث عمّا "تميّزت به الديار التونسيّة وما تفتخر به بين أحبابها"(1) هذه الشخصيّة التي استعصت عن أن ينال منها الاستعمار طوال سبعين سنة ليست بالهوان الذي يتصوّره الذين لم يعرفوا طبيعة هذا الشعب ولم يخبروا نخبه التي صاغت تاريخه فظنوا أنهم بمخاصمة حركة ما أو بالدعوة إلى إعادة النظر في الإرث أو بتجسيم الجلالة يمكنهم تحقيق ما يتوهَّمون أنه حداثة واستنارة والحال أن ما ذكر لا تأثير له إلا ضمن سياقه الحضاري وفي توافق مع ما تواضع عليه الناس وارتضاه الضمير الشعبي وأقرّه الدين، فالحرية التي توضع في موقع المصادمة والنفي للذات لن تكتب لها الحياة والديمومة وهي إلى زوال محتّم، لهذا السبب بالذات انتفض نخبة من أنقى شباب الوطن ممّن لم تلوِّثهم خزعبلات وسفاهات ساسة آخر الزمان الذين تصدّروا المشهد العمومي بعد 14 جانفي معلنين رفضهم لِما أتته قناة نسمة وأصرّت عليه من اعتداء على مقوِّمات الذاتيّة التونسيّة في مختلف برامجها، أمّا ما أشاعه البعض من القول بالتطرف والعنف في وصفه لهذا الردّ العفوي فلغوٌ لا يُؤبه له، لأن أقسى وأقصى أنواع التطرف والعنف هي التي تجعل الإنسان غريبا في وطنه ومغتربا في محيطه.
لمّا تفطنت أقليّة القلة وبوقها الإعلامي لخطورة ما صنعوا حاولوا الالتفاف حول الموضوع بأن جعلوا المسألة منحصرة في الارتباط بين الالتزام الديني وحرية المبدع وحدود التداخل بينهما واستشهد بعضهم بالمعري وأبي بكر الرازي وغيرهما، وفاتهم أن المقارنة لا تصحّ بين قامات فكريّة وأدبيّة حفظ لها التاريخ مقاما عاليا وبين من جاؤوا به لنصرتهم فيما هم عليه من خلط وخبط فإذا به يتعثر حتى في قراءة بيان لحركة النهضة لجهله المطبق باللغة العربيّة وقواعدها ولكنه يقدم في هذه القناة بوصفه باحثا في الإسلاميّات وصاحب رأي هذا من ناحية ومن ناحية أخرى نلحظ أن مؤلفات المبدعين حقا حتى وإن اتهموا في عقيدتهم:
أ) حققها ونشرها بين الناس كاملة دون تغيير أو إنقاص أعلام الأمّة ممّن لا يمكن القدح في إيمانهم ويكفي أن نذكر أن ديوان بشار بن برد حققه شيخ الأمّة وإمامها المرحوم محمد الطاهر ابن عاشور وكذا ديوان النابغة الذبياني وهما المعروفان بمجونهما وخلاعتهما وتهتكهما، قال قدامة بن جعفر:"وعلى الشاعر إذا شرع في أي معنى كان من الرفعة والضعة، والرفث والنزاهة، والبذخ والقناعة، والمدح وغير ذلك من المعاني الحميدة أو الذميمة أن يتوخى البلوغ من التجويد في ذلك إلى الغاية المطلوبة، ومما يجب تقديمه أيضا أن مناقضة الشاعر نفسه في قصيدتين أو كلمتين بأن يصف شيئا وصفا حسنا ثم يذمه بعد ذلك ذمّا حسنا بينا غير منكر عليه ولا معيب من فعله إذا أحسن المدح والذم، بل ذلك عندي يدلّ على قوّة الشاعر في صناعته واقتداره عليها"(2) بهذا الوضوح حسم أسلافنا القول في الإيهام بوجود خلاف بين الإيمان والإبداع قبل عشرة قرون كاملة فأبانوا وجه الحق من أن الإبداع لا يحاكم إلا بمقياس التجويد في الصناعة والإحكام في الصياغة وما خلا ذلك فهراء لا معنى له.
ب) مثلت مؤلفات الرازي ومباحثه في النبوّة ونقده للأديان عامة والكتب المقدسة إضافة للفكر الإنساني ومساهمة ذات بال في نشر الفكر الفلسفي والتشريع لحرية النقد والمسؤوليّة فيه، هذه الإضافة لم تنزل إلى ما عليه الإسفاف الذي يتجرأ فيه البعض على أقدس المقدّسات بل تناول المسائل المذكورة في إطارها المعرفي والفلسفي المبرأ من كل هزء أو استفزاز أو سخرية، يقول عبد الرحمان بدوي في وصفه لأبي بكر الرازي بأنه:"شخصيّة فكريّة من الطراز الأوّل وواحد من أحرار العقول النادرين في التاريخ ومن أجرأ المفكرين الذين عرفتهم الإنسانيّة طوال تاريخها، ولا يسع المرء إلا أن يمتلئ إعجابا بهذا الجو الطليق الذي هيّأه الإسلام للفكر في ذلك العصر ممّا يدلّ على ما كان عليه العقل الإسلامي في ذلك العصر من خصب ونضوج"(3) فكل ربط بين هذه القمم الفكريّة الإنسانيّة وما عليه المُـتَـقَـلـِّلـون في بضاعتهم اللغويّة والمعرفيّة إنما القصد منه التهوين من شأن الفضاء الثقافي الذي ضمنه أبدعوا وأفادوا.
واللافت للانتباه أن عددا من المُهَرْولين وراء الشهرة يتعمّدون النيْـل من المقدّسات والقدح في الثوابت بغلظة لا نظير لها ثم يرفعون عقيرتهم بالصِّياح متنادين إلى وحدة الصفّ ضد خصومهم الذين فضحوا أعوارهم وكشفوا جهالاتهم، ولدينا في تونس البعض من هذه النماذج ممّن تنوء الصفحات التي سوَّدوها بكمٍّ مهول من الأخطاء اللغويّة والشناعات المعرفيّة تتبعنا بعضها في العديد من المقالات التي نشرناها وفضّل أصحابها الصَّمْت طلبا للسلامة.
ليس من قبيل الصدفة أن يقتصر تعامل قناة نسمة مع نوعيّة محدّدة من الأشخاص جميعهم من أتباع عبد المجيد الشرفي أو من لفّ لفـّه الأمر الذي يؤكد بأن القناة تتعمّد نشر خطاب إيديولوجي سياسي له أهداف محدّدة، هذا الخطاب يقوم على:
1) الادعاء بالانتساب إلى "مغرب كبير" نافية بذلك أي علاقة له بالعروبة وفي ذات الوقت تجهد القناة نفسها وتصرّ على تخريب أهمّ أداة من أدوات التواصل بين شعوب "المغرب الكبير" أي اللغة العربيّة وذلك باستعمال لكنة لقيطة لا هي بالعربيّة ولا هي بالفرنسيّة ولا هي بلهجة من اللهجات العاميّة المستعملة في المنطقة بل هي لكنة هجينة وخليط من الأصوات المصحوبة بانحلال في النطق وميوعة في التلفظ وتقعّر في الربط.
2) محاولة تخريب الجهاز العقائدي والناظم الديني الذي يوحِّد شعوب المنطقة أي المذهب السني وذلك من خلال القدح في البعض من الأسس التي يقوم عليها استنادا إلى منظومات عقائدية أخرى، فإن حَرَّمَ أهل السنة تجسيد الأنبياء فإن الشيعة وأغلبهم فرس تحتل الصورة والمنمنمات موقعا متميزا في إرثهم الحضاري القديم لا يَرَوْنَ حرجا في ذلك، فقد استوردت القناة أفلاما صنعتها الآلة الدعائيّة لنظام الملالي ترويجا لعقائدهم وإفسادا لعقائد الآخرين وقامت بعرضها بمساندة من السلطة البائدة التي أصمت آذانها عن اعتراضات المواطنين على ذلك ولم يصدر من الأجهزة الدينيّة الرسميّة المحليّة أي موقف رغم مطالبتها بذلك عن طريق الصحافة والقضاء والاتصال المباشر، فقد نُشرت في تلك الفترة بعض المقالات الرافضة لعرض هذه النوعية من الأفلام الدعائيّة من بينها واحد لكاتب هذه السطور(4) لم يُرض السلطة البائدة وفق ما روى الرئيس السابق المجلس الإسلامي الأعلى، علما بأن الرئيس السابق قابل أيامها طارق بن عمار صاحب القناة إلا أن هذا الأخير لم يفصح عمّا دار بينهما بخصوص هذا الفيلم الأمر الذي يثبت لدينا أن ما تمّ عرضه إنما تمّ بموافقة السلطة البائدة وتحريض منها.
3) سيادة خطاب إيديولوجي يستهدف نقض الدين تحت ستار الدفاع عن الحريات، فقد دأبت القناة على إقامة تعارض بين الإبداع والإيمان متوهّمة بذلك أنها تحصر الخيار بينهما والحال أن المسألة ليست كذلك فالفيلم الفارسي الذي عرضته القناة مؤخرا واستدعت بعض الأشخاص لمناقشته لم تضعه في إطار الإبداع لأن الذين استدعتهم في الحصتين لا علاقة لهم بالنقد السينمائي ولا الفنون، فكلهم من ذوي المواقف السياسيّة المعلومة المناهضة لذاتية الأمّة والداعية إلى الانسلاخ عن الجذور كما أنهم جميعهم يدَّعون التخصّص في الدراسات الإسلاميّة كلطيفة الأخضر ومختار الخلفاوي ورجاء بن سلامة وحمادي الرديسي ونائلة السليني وزياد كريشان وحتى صلاح الدين الجورشي والقلفة الدائمة لكل مقدّمي البرامج سفيان بن حميدة الذي يتحدث في كل شيء وعن أي شيء وفي كل الأوقات(5) وما درى المساكين أنهم في جمع قلة وعُصبة منحلة وطاعة مختلة يصحّ وصف مجلسهم بما جاء في المثل العامي البليغ:"عمياء تحدث في مجنونة والطار في يد الرعاشة".
والغريب حقا أن مستشار قناة نسمة سابقا والمكلف بالاتصال في الوزارة الأولى حاليا:"أوضح أن الحكومة لا يمكن لها التدخل في البرمجة والخط التحريري للقناة" وفاته أن نظام الرئيس السابق سقط لأن الدولة تخلت عن مهامها وأصبحت وكيلا يقسم الغنائم وينهب قوت الشعب، فهل تخلت حكومة سي الباجي عن أداء دورها في الحفاظ على الأمن في مفهومه الشامل؟ وكيف يمكن لسي المعز أن يشرح للمواطن العادي دواعي المسارعة والإصرار على إغلاق قناة التونسيّة لا لشيء إلا لأنها أعادت عرض حديث لأحد المترشحين للانتخابات في حين تُنتهك الحرمات ويُتجرأ على الجلالة ويُعبث بالمقدسات ويُعَرَّض الأمن العام للمخاطر ورغم ذلك تجد القناة من يبرّر لها صنيعها؟......
الهوامش
1) كتاب المؤنس في أخبار إفريقية وتونس، ط1، تونس 1286هـ، ص289.
2) "نقد الشعر" لأبي الفرج قدامة بن جعفر، تحقيق وتعليق الدكتور محمد عبد المنعم خفاجي، دار الكتب العلمية بيروت، ص65 و66.
3) "من تاريخ الإلحاد في الإسلام" تأليف وترجمة الدكتور عبد الرحمان بدوي، دار سينا للنشر، القاهرة 1993، ص263.
4) عن ذلك انظر مقالا لنا في الموضوع عنوانه "رأينا في تجسيد الأنبياء" نُشر في جريدة الشروق بتاريخ 4 سبتمبر 2010.
5) عنه انظر الفقرة الرّائعة التي خصّصها له الناقد الفني والمؤرّخ السينمائي الأستاذ عبد الكريم قابوس في جريدة المغرب عدد يوم الأحد 25 سبتمبر 2011 تحت عنوان "النقاشات التلفزيّة وحلزون المطر الأخير".
اضغط على الكلمات المفتاحية التالية، للإطلاع على المقالات الأخرى المتعلقة: