فضل هذه الأمة المحمدية على غيرها من الأمم، وجعل الريادة في أيدي أبنائها، قال تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَوْ آَمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ} [آل عمران: 110]، وجعل مناط هذه الريادة موقوف على صدق الإيمان بالله جل وعلا، قال تعالى: {وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [آل عمران: 139].
ولقد أسست هذه الأمة الإسلامية على رابطة الإسلام، والمسلمون لا يعدون إلى غيرها من الروابط لتقوي آصرة الترابط بينهم، بل إن الإخوة الإيمانية هي عنوان هذه الرابطة، فعن جابر رضي الله عنه قال: خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في أوسط أيام التشريق خطبة الوداع، فقال: ((يا أيها الناس! إن ربكم واحد وإن أباكم واحد، ألا لا فضل لعربي على عجمي، ولا عجمي على عربي، ولا أحمر على أسود، ولا أسود على أحمر، إلا بالتقوى {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ}، ألا هل بلغت؟))، قالوا: بلى يا رسول الله! قال: ((فيبلغ الشاهد الغائب)) [رواه البيهقي في شعب الإيمان، (4921)، وصححه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب، (2963)].
ولست أرضى سوى الإسلام لي وطنًا *** الشــام فيه ووادي النيل سياني
وحيثمـا ذكر اسـم الله في بلــد *** عـددت أرجاءه من لب أوطاني
ولقد جاء في كتاب النبي عليه الصلاة والسلام بين المهاجرين والأنصار واليهود، والذي اعتبر الدستور الذي قامت عليه دولة المدينة: ((هذا كتاب من محمد النبي (رسول الله) بين المؤمنين والمسلمين من قريش (وأهل يثرب) ومن تبعهم فلحق بهم وجاهد معهم، إنهم أمة واحدة من دون الناس ... وأن المؤمنين لا يتركون مفرحًا [هو من أثقله الدين والغرم فأزال فرحه] بينهم أن يعطوه بالمعروف في فداء أو عقل، وألا يخالف مؤمن مولى مؤمن دونه،وأن المؤمنين المتقين أيديهم على كل من بغى منهم، أو ابتغى دسيعة ظلم [طلب دفعًا على سبيل الظلم أو ابتغى عطية على سبيل الظلم]، أو إثمًا، أو عدوانًا، أو فسادًا بين المؤمنين، وأن أيديهم عليه جميعًا ولو كان ولد أحدهم، ولا يقتل مؤمن مؤمنًا في كافر، ولا ينصر كافرًا على مؤمن، وأن ذمة الله واحدة، يجير عليهم أدناهم، وأن المؤمنين بعضهم موالي بعض دون الناس)) [كتاب الوثائق السياسية في العهد النبوي والخلافة الراشدة، للدكتور محمد حميد الله الحيدر أبادي، أستاذ الحقوق الدولية بالجامعة العثمانية بحيد أباد / دكن].
ولذا؛ فإن عقيدة الإسلام تقوم على ركنين أساسيين، لا ينفصل أحدهما عن الآخر، وهذان الركنان هما، الولاء والبراء، ويدلنا على ذلك قوله تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعْبُدُواْ اللّهَ وَاجْتَنِبُواْ الطَّاغُوتَ فَمِنْهُم مَّنْ هَدَى اللّهُ وَمِنْهُم مَّنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ فَسِيرُواْ فِي الأَرْضِ فَانظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِين} [النحل: 36].
فالولاء والبراء من لوازم الإيمان وجزء لا يتجزأ من العقيدة الإسلامية، والمقصود بهما موالاة المؤمنين ومعاداة الكافرين، يقول ابن سعدي رحمه الله: (ولما عقد الله الأخوة والمحبة والموالاة والنصرة بين المؤمنين، ونهى عن موالاة الكافرين كلهم من يهود ونصارى وملحدين ومشركين وغيرهم؛ كان من الأصول المتفق عليها بين المسلمين: أنَّ كل مؤمن موحِّد تارك لجميع المكفرات الشرعية تجب محبته وموالاته ونصرته، وكل من كان بخلاف ذلك وجب التقرب إلى الله ببغضه ومعاداته، وجهاده باللسان واليد بحسب القدرة والإمكان، وحيث أن الولاء والبراء تابعان للحب والبغض؛ فإن أصل الإيمان أن تحب في الله أنبياءه وأتباعهم، وتبغض في الله أعداءه وأعداء رسله) [الفتاوى السعدية، الشيخ عبد الرحمن بن سعدي، (1/98)].
ولقد تضافرت الأدلة من القرآن والسنة على بيان أهمية هذين الركنين:
1. قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (51) فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلَى مَا أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نَادِمِينَ} [المائدة: 51-52].
قال ابن كثير في كتابه تفسير القرآن العظيم: (ثم قال تعالى: {وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَمَا أُنزلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاءَ} [المائدة: 81]، أي: لو آمنوا حق الإيمان بالله والرسل والفرقان لما ارتكبوا ما ارتكبوه من موالاة الكافرين في الباطن، ومعاداة المؤمنين بالله والنبي وما أنزل إليه، {وَلَكِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ فَاسِقُونَ} [المائدة: 81] أي: خارجون عن طاعة الله ورسوله مخالفون لآيات وحيه وتنزيله) [تفسير ابن كثير، (3/165)].
قال الإمام الطبري في تفسير قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} [المائدة: 51]: (نهى المؤمنين جميعًا أن يتخذوا اليهود والنصارى أنصارًا وحلفاءً على أهل الإيمان بالله ورسوله، وأخبر أنه من اتخذهم نصيرًا حليفًا ووليًّا من دون الله ورسوله والمؤمنين؛ فإنه منهم في التحزب على الله وعلى رسوله والمؤمنين، وأن الله ورسوله منه بريئان) [تفسير الطبري، (10/398)].
وقال في تفسير قوله تعالى: {وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ} [المائدة: 51]: (ومن يتول اليهود والنصارى دون المؤمنين فإنه منهم، يقول: فإن من تولاهم ونصرهم على المؤمنين فهو من أهل دنيهم وملتهم، فإنه لا يتولى متول أحدًا إلا وهو به وبدينه وما هو عليه راضٍ، وإذا رضيه ورضي دينه فقد عادى ما خالفه وسخطه وصار حكمه حكمه) [تفسير الطبري، (10/400)].
يقول الدكتور الوهيبي: (مظاهرة الكافرين ومعاونتهم على المؤمنين: وهذه من أخص صفات المنافقين، فهم في الظاهر مع المؤمنين لكنهم مع الكفار عيونًا وأعوانًا يكشفون لهم عورات المسلمين وأسرارهم، ويتربصون بالمؤمنين الدوائر) [نواقض الإيمان الاعتقادية، محمد بن عبد الله بن محمد الوهيبي، ص(166)].
معنى الموالاة:
يقول الدكتور محمد نعيم ياسين: (إن الموالاة تعني التقرب وإظهار الود بالأقوال والأفعال والنوايا لمن يتخذه الإنسان وليًّا، فإن كان هذا التقرب وإظهار الود بالأقوال والأفعال والنوايا مقصودًا به الله ورسوله والمؤمنين؛ فهي الموالاة الشرعية الواجبة على كل مسلم، وإن كان المقصود بالتقرب وإظهار الود بالأقوال والأفعال والنوايا هم الكفار على اختلاف أجناسهم؛ فهي موالاة كفر وردة عن الإسلام إذا صدرت ممن يدعي الإسلام، أما الكفار ومن في حكمهم من المرتدين والمنافقين فبعضهم أولياء بعض، فلا يستغرب منه ذلك) [الإيمان أركانه حقيقته نواقضه، محمد نعيم ياسين، ص(188)].
يقول الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن: (أصل الموالاة الحب، وأصل المعاداة البغض، وينشأ عنهما من أعمال القلب والجوارح ما يدخل في حقيقية الموالاة والمعاداة، كالنصرة والأنس، والمعاونة والجهاد والهجرة، ونحو ذلك من الأعمال) [الرسائل المفيدة، الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن آل الشيخ، ص(296)].
يقول الشيخ عبد الله بن عبد العزيز العنقري: (إن الموالاة هي الموافقة والمناصرة والمعاونة والرضا بأفعال من يواليهم، وهذه هي الموالاة العامة التي إذا صدرت من مسلم لكافر اعتبر صاحبها كافرًا، أما مجرد الاجتماع مع الكفار بدون إظهار تام للدين مع كراهية كفرهم فمعصية لا توجب الكفر) [الدرر السنية، (7/309)].
موالاة المؤمنين:
ولولاء المؤمن لأخيه صور متعددة نذكر منها:
1. ولاء الود والمحبة: وهذا يعني أن يحمل المسلم لأخيه المسلم كل حب وتقدير، فلا يكيد له ولا يعتدي عليه ولا يمكر به، بل يمنعه من كل ما يمنع منه نفسه، ويدفع عنه كل سوء يراد له، ويحب له من الخير ما يحب لنفسه، قال صلى الله عليه وسلم: ((مثل المؤمنين في توادهم، وتراحمهم، وتعاطفهم، مثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى)) [رواه مسلم، (6751)].
2. ولاء النصرة والتأييد: وذلك في حال ما إذا وقع على المسلم ظلم أو حيف، فإن فريضة الولاء تقتضي من المسلم أن يقف إلى جانب أخيه المسلم، يدفع عنه الظلم، ويزيل عنه الطغيان، فعن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((انصر أخاك ظالمًا أو مظلومًا))، قالوا يا رسول الله: هذا ننصره مظلومًا، فكيف ننصره ظالما؟ قال: ((تأخذ فوق يديه)) [رواه البخاري، (2444)]، أي تمنعه من الظلم، فبهذا الولاء يورث الله عز وجل المجتمع المسلم حماية ذاتية، تحول دون نشوب العداوات بين أفراده، وتدفعهم جميعًا للدفاع عن حرماتهم، وعوراتهم.
3. النصح لهم والشفقة عليهم: فعن جرير بن عبد الله رضي الله عنه قال: (بايعت رسول الله صلى الله عليه وسلم على إقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، والنصح لكل مسلم) [متفق عليه، رواه البخاري، (57)، ومسلم، (208)].
صور الموالاة المحرمة وحكمها الشرعي:
مسمى الموالاة يقع على شعب متفاوتة منها ما يوجب الردة كذهاب الإسلام بالكلية، ومنها ما هو دون ذلك من الكبائر والمحرمات، وسنحاول تبيان هذه الصور المختلفة.
أولًا: موالاة مطلقة عامة:
وهي الدفاع عن الكفار وإعانتهم بالمال والبدن والرأي والمحبة القلبية لهم لأجل دينهم، فهذا كفر صريح يخرج من الملة الإسلامية، وهي التي أتت في القرآن بمعنى التولي، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [المائدة: 51].
ثانيًا: موالاة خاصة:
وهي المصانعة والمداهنة للكفار لغرض دنيوي مع عدم إضمار نية الكفر والردة عن الإسلام، وهي من كبائر الذنوب، كما حصل من حاطب من أبي بلتعة عندما كتب إلى قريش يخبرهم بمسير رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفيه نزل قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ إِنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَادًا فِي سَبِيلِي وَابْتِغَاءَ مَرْضَاتِي تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعْلَمُ بِمَا أَخْفَيْتُمْ وَمَا أَعْلَنْتُمْ وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ (1) إِنْ يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ أَعْدَاءً وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُمْ بِالسُّوءِ وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ (2) لَنْ تَنْفَعَكُمْ أَرْحَامُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} [الممتحنة: 1-3].
صور لا تعتبر من الموالاة المحرمة:
1.المسامحة والمسالمة والمعاشرة الجميلة في الدنيا:
فالمعاملة بالحسنى وتبادل المصالح بحسب الظاهر مع عدم الرضا عن كفرهم أمر غير منهي عنه، قال تعالى: {لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (8) إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [الممتحنة: 8-9].
وعن أسماء رضي الله عنها قالت: قدِمَت عليَّ أمي وهي مشركة في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاستفتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، قلت: إن أمي قدمت علي وهي راغبة أفأصل أمي؟ قال: ((نعم، صلي أمك)) [متفق عليه، رواه البخاري (2620)، ومسلم (1003)].
قال ابن كثير في كتابه تفسير القرآن العظيم: (قوله: {إِلا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً} أي: إلا من خاف في بعض البلدان أو الأوقات من شرهم، فله أن يتقيهم بظاهره لا بباطنه ونيته، كما حكاه البخاري عن أبي الدرداء أنه قال: إنا لنكشر فى وجوه أقوام، وإن قلوبنا لتلعنهم، وقال الثوري: قال ابن عباس رضي الله عنهما: ليس التقية بالعمل إنما التقية باللسان) [تفسير ابن كثير، (2/30)].
جاء في فتح القدير: (قوله: {إِلا أَن تَتَّقُواْ مِنْهُمْ تُقَاةً} على صيغة الخطاب بطريق الالتفات، أي: إلا أن تخافوا منهم أمرًا يجب اتقاؤه، وهو: استثناء مفرغ من أعم الأحوال، وتقاة مصدر واقع موقع المفعول، وأصلها وقية على وزن فعلة قلبت الواو تاء، والياء ألفًا، وقرأ رجاء، وقتادة {تقية}، وفي ذلك دليل على جواز الموالاة لهم مع الخوف منهم، ولكنها تكون ظاهرًا لا باطنًا) [فتح القدير، الشوكاني، (1/452)].
3. إباحة التعامل معهم بالبيع والشراء:
واستثنى العلماء بيع آلة الحرب وما يتقووا به علينا، ولا يخفى أن النبي صلى الله عليه وسلم وصحابته كانوا يبيعون ويشترون من اليهود، بل ومات عليه السلام ودرعه مرهونة عند يهودي على ثلاثين صاعًا من شعير، كما روى ذلك أحمد وغيره.
4. إباحة الزواج من أهل الكتاب وأكل ذبائحهم بشروطه:
قال تعالى: {الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ} [المائدة: 5].
5. الإهداء لهم وقبول الهدية منهم:
فقد قبل النبي صلى الله عليه وسلم هدية المقوقس، كما عند الطبراني بسند رجاله ثقات كما قال الهيثمي في المجمع، وأهدى عمر رضي الله عنه حلته لأخ له مشرك كما في صحيح البخاري
6. عيادة مرضاهم إذا كان في ذلك مصلحة:
فعن أنس رضي الله عنه قال: (كان غلام يهودي يخدم النبي صلى الله عليه وسلم فمرض، فأتاه النبي صلى الله عليه وسلم يعوده فقعد عند رأسه، فقال له: ((أسلم))، فنظر إلى أبيه وهو عنده، فقال له: أطع أبا القاسم صلى الله عليه وسلم، فأسلم، فخرج النبي صلى الله عليه وسلم وهو يقول: ((الحمد لله الذي أنقذه من النار)) [رواه البخاري، (1356)].
7. التصدق عليهم والإحسان إليهم:
قال تعالى: {وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا} [لقمان: 15]، وعن أسماء رضي الله عنها قالت: قدِمَت عليَّ أمي وهي مشركة في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاستفتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، قلت: إن أمي قدمت علي وهي راغبة أفأصل أمي؟ قال: ((نعم، صلي أمك)) [متفق عليه، رواه البخاري (2620)، ومسلم (1003)].
أثر عقيدة الولاء والبراء على الأمة الإسلامية:
تنبع أهمية هذه العقيدة الإسلامية الأصيلة من كونها فريضة ربانية، ومن كونها كذلك سياج الحماية لهوية الأمة الثقافية والسياسية، يقول الشيخ سليمان بن عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب رحمه الله: (فهل يتم الدين أو يقام علم الجهاد، أو علم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إلا بالحب في الله والبغض في الله، ولو كان الناس متفقين على طريقة واحدة ومحبة من غير عداوة ولا بغضاء، لم يكن فرقانًا بين الحق والباطل، ولا بين المؤمنين والكفار، ولا بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان) [أوثق عرى الإيمان (ضمن مجموعة التوحيد)، ص(90)].
وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يبايع أصحابه على تحقيق هذا الأصل العظيم، فكان يقول لبعضهم: (أبايعك على أن تعبد الله، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتناصح المسلمين، وتفارق المشركين) [رواه النسائي، (4194)، وصححه الألباني في صحيح سنن النسائي، (4177)].
ولقد كانت من أهم أسباب الهزيمة للأمة في تاريخنا الإسلامي موالاة الكافرين والمنافقين، وعدم الحذر منهم, ولقد حذرنا الله من ذلك تحذيرًا شديدًا، وأبدأ وأعاد، حتى قال العلامة الشيخ حمد بن عتيق من أئمة الدعوة رحمه الله: (لم يرد في القرآن الكريم بعد الأمر بالتوحيد والنهي عن ضده أكثر من النهي عن موالاة الكافرين) [من مقال بعنوان أسباب النصر والهزيمة في التاريخ منشور على الشبكة العنكبوتية، www.almotamar.net]، وفي آية واحد يتبين لنا حقيقة الكفار، يقول الله سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لَا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا} أي: لا يقصرون فيما يفسدكم، {وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ} أي: أحبوا ما يشق عليكم، {قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ} فما استطاعوا إخفاءها، {وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآيَاتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ} [آل عمران: 118] ولكن أين الذين يعقلون؟
لقد كان هذا هو السبب في هزيمة الدولة العباسية أمام التتار لما وثقت بالرافضي الخبيث ابن العلقمي وولته الوزارة، وكان ذلك الخبيث ممن مالأ التتار، وكاتبهم من أجل أن تهدم الخلافة وتسقط الدولة، فكان ذلك وحصل له ما أراد، ولكن الله كان له بالمرصاد، فجازاه ملك التتار أن قتله، وقال له: أنت لا تستحق أن يثق فيك، فقتله شر قتلة، وما أكثر أمثال ابن العلقمي في هذه العصور.
ولقد كان من أهم أسباب سقوط الدولة العثمانية باشوات الدولة، الذين عملوا على إضعاف عقيدة الولاء والبراء لدى الأمة المسلمة بشكل مباشر تمثلت في سياسة العسف والإرهاب، وبشكل غير مباشر اتخذ التغريب له مسارًا، فقد ظلوا يتعهدون غراس التغريب والعلمنة، ويسيرون في نفس الطريق ويتسابقون إلى كسب ولاء الغرب، وخطب وده.
إن فئة سلاطين الدولة العثمانية وباشواتها أمعنوا في موالاة الكافرين وألقوا إليهم بالمودة، وركنوا إليهم واتخذوهم بطانة من دون المؤمنين، وعملوا على إضعاف عقيدة الولاء والبراء في الأمة وأصابوها في الصميم، وبذلك تميعت شخصية الدولة العثمانية وهويتها، وفقدت أبرز مقوماتها، وسهل بعد ذلك على أعدائها أن يحتووها ثم مزقوها شر ممزق.
2. حماية المسلمين سياسيًّا، وذلك أن ما يوجبه الإسلام من مبدأ الولاء والبراء يمنع من الانجرار وراء الأعداء، وما تسلط الكفار على المسلمين وتدخلوا في شئونهم إلا نتيجة إخلالهم بهذا الأصل العظيم.
3. تحقيق التقوى والبعد عن مساخط الله سبحانه، قال تعالى: {تَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ} [المائدة: 80]، وقال تعالى:{وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ} [هود: 113].
إن عقيدة الولاء والبراء هي عقيدة صيانة الأمة وحمايتها من أعدائها، كما أنها سبب للألفة والإخاء بين أفرادها، وهي ليست عقيدة نظرية تدرس وتحفظ في الذهن مجردة عن العمل؛ بل هي عقيدة عمل ومفاصلة، ودعوة ومحبة في الله، وكره من أجله وجهاد في سبيله.
المصادر
1. تفسير القرآن العظيم لابن كثير.
2. تفسير الطبري.
3. الولاء والبراء لمحمد سعيد القحطاني.
4. المولاة والمعاداة لمحماس بن عبد الله بن محمد الجلعود.
5. نواقض الإيمان الاعتقادية للدكتور محمد بن عبد الله بن علي الوهيبي.
6. السيرة النبوية رصد وقائع وتحليل أحداث للدكتور علي الصلابي.
اضغط على الكلمات المفتاحية التالية، للإطلاع على المقالات الأخرى المتعلقة: