وقفة علي المحطات الأخيرة في الشعر العربي وأمراض مزمنة في عموده الفقري
لطفي خلف - فلسطين
من كتـــــّاب موقع بوّابــتي المشاهدات: 6583
يسمح بالنقل، بشرط ذكر موقع "بوابتي" مصدر المقال، ويفضّل أن يكون ذلك في شكل رابط
ما سلط علي الشعر العربي الحديث من أضواء نقدية بناءة أو نقدية هدامة، أو من باب الترف النقدي وحب الاستطلاع والهواية، لم يكن كافيا، ولم تغط ِّ كلَّ تلك العمليات النقدية التشريحية أو الجرعات الدوائية أو الشطحات الإستجمامية علي شواطئ الشعر الفسيحة ولو حتي النزر اليسير من المنشورات الشعرية الضخمة في هذا العصر الكئيب، حيث الناقد المتردد أصلا في اختيار صنف الأدب الملائم له والذي يمكن أن يكون هو ديوان العرب الحديث.
كاد الكثيرون من الأكاديميين والمتخصصين في مجال الادب أن يجزموا وبشكل لا يقبل التأويل أن الرواية هي ديوان العرب اليوم، بعدما اعتاد العرب علي أن يكون الشعر ديوانهم في كل الظروف .
أخذ الشعر أكثر من منحي في التجديد سواء أكان في البدايات الأولي عندما كتبت قصيدة التفعيلة منذ السياب ونازك الملائكة والبياتي أو حين وصلنا قصيدة النثر،رغم أن البعض يعتقد أنها كتبت في ذات الفترة التي ولدت فيها قصيدة التفعيلة، ولكن أهل الأدب اعتبروها جاءت بعد تجربة الشعر الحر - قصيدة التفعيلة - كما يحلو لي تسميتها، ويفسرون ذلك أن الشعر الحر يحتاج إلي أوزان موسيقية في كل تفعيلة تتكرر، بغض النظر عن عدد التفعيلات التي يحتملها كل سطر، وليس كل شطر أو عجز كما هو معروف بالنسبة للشعر التقليدي العمودي، وبما أن الوزن يحتاج إلي جهد ووقت كبيرين بالإضافة إلي تهشيم أو تشويه أجزاء أساسية في ذات الفـــــكرة من حيث معناها ومبناها، لهـــــذا رأي الراغبون في التجديد فرصة كبيرة للخوض في تجــــــربة تريحهم من أعباء كبيرة، ولهذا جاءت بينة أهل الأدب جازمة في أن تجربة الشعر الحر قد سبقت قصيدة النثر، أي بالتدرج من الأصعب إلي الأسهل وليس العكس حيث كانت البداية بالشعرالتقليدي فتحرروا من أوزانه وقوافيه المضنية، والخروج عن النمطية المتبعة في المعادلة القائمة علي كفتي الميزان من شطر وعجز، لهذا فقد أنزلوا عن كواهلهم بعض القيود، ثم تبع ذلك تخفيف قيود أخري وهي التفعيلة وموسيقاها.
في الشعر الحر كما ذكرنا سالفا، فظهر الكثير من الشعراء العرب الذين أصبحوا مدارس عظيمة في قصيدة النثر كأدونيس والماغوط وعفيفي مطر وغيرهم الكثيرون من رواد هذه التجربة الحديثة . لم يعد الآن بالإمكان وضع معايير وضوابط دقيقة لمزايا الشعر الحقيقي، حتي ولو كان شعرا تقليديا من الطراز الأول، ولا يختلف عليه اثنان من حيث الشكل والسمات الايقاعية أو الموسيقي ولكنه لا يملك مزايا ومقومات الشعر من حيث مضامينه وصوره والفكرة التي استند عليها ليقف علي قدميه ويصبح شعرا، فالموسيقي والقافية وما هناك من شكليات لا تكفي علي الاطلاق في أن تلبس عباءة الشعر الحقيقي، وكذلك الحال في الشعر الحر - شعر التفعيلة-، فالوزن والموسيقي لا يكفيان أبدا لولوجه باب الشعر الحقيقي، أما بالنسبة لقصيدة النثر والتي اتكأ عليها البعض من الشعراء ومنحوا أنفسهم شهادات شعرية فيها، حيث لا شكل ولا مضمون ولا روح في أشعارهم ولا حتي أية سمة تدلنا علي حيز ولو ضئيل من الشاعرية، وهنا مكمن الخطر لأن منطقة الاتكاء هنا هي القشرة الرقيقة التي سينفذ منها البركان المزلزل والذي سيطيح بآخر مدن الشعر العربي ما لم تتوقف الخزعبلات والترهات الخالية أصلا من هيموغلوبين وبلازما وصفائح الشعر الدموية الحقيقية والتي بها فقط تجعلنا نستسيغه ونطلق عليه لقب الشعر.
يصاب الشعر بشكل خاص دون غيره من أشكال الأدب العربي المتنوعة والعديدة بانزلاق غضروفي في عموده الفقري، يؤثر علي بنيته المألوفة من العهود السالفة حتي عهود قريبة، ويمكن علاجه حتي هذه اللحظة الحرجة ولكن التقاعس عن فرز الغث من السمين، وعدم وضع النقاط علي الحروف من قبل أصحاب القرار والمعنيين -لا أقصد في المؤسسة الرسمية- برفع نبرة احتجاج دون خوف أو مجاملة أو وجل، وعدم إسقاط القداسة عن بعض الأمور التي تشكل زائدة دودية في جسد الشعر بمفاهيمه ومعاييره المتفق عليها، كله سيؤدي إلي كارثة حقيقية، ما لم نواجهه برباطة جأش وقوة رادة حتي نستطيع مواصلة مسيرة الابداع الحقيقي بعيدا عن المهاترات والمجاملات ومنح الفرص لمن لا يستحقها، لأن ذلك الامر سيؤدي الي كوارث كبري وخاصة بعد ظهور الأمراض المزمنة والخطيرة كفتح أبواب المواقع والصحف لكل ما هب ودب مما يسمونه شعرا، وهو من الشعر بريء براءة الذئب من دم سيدنا يوسف ولا علاقة له لا من قريب ولا من بعيد بالشعر.
------------------
لطفي خلف
شاعر فلسطيني
اضغط على الكلمات المفتاحية التالية، للإطلاع على المقالات الأخرى المتعلقة: